أيُّ رحىً تجوب في مُخيلتي؛ وأيُّ كوتٍ تُحيط بذاكرتي؛ وأيُّ جوىً يتمتم في صومعتي لأجلك يا ”أستاد غريب” بالفريج الشمالي وهجر الماء والنخيل؟!
أكاد أجزم أنك خلدت ذكرك في دواخل حارتك ومدينتك ووطنك..
كيف لا وقد تخرجت على يديك الأجيال باختلاف أعمارهم وتخصصاتهم وإبداعاتهم.. باحتراقك كالقنديل لتضيء لنا ولهم درب التحدي والكفاح من وقود روحك، وبهاء طيبك، ونقاء أصلك يا أستاذنا ووالدنا الأعز الأجل..
ثلاثة عقودٍ ونيف كبلتها أيادي العمر، وما زالت المآقي تُطأطئ برموشها لقلبك الطاهر والشفيف بالشكر والعرفان..
لا زلت أتذكرك جيداً وأنت تحزم (غترتك) على بطنك وظهرك كالحلقة بين صفوفنا الأولى لتجوب بنا ساحة مدرسة الجارود الابتدائية بالكوت كالقطار، وطاقيتك المائلة والمزركشة بالزري الفضي على رأسك هاتفاً بأعلى صوتك: ” طوط طوط أنا القطار السريع طوط طوط..
ما زلت أتذكرك جيداً وأنت تكتب درس المطالعة بالسيناريو والتمثيل لنا.. ولعل الصديق: عادل بن حسن الحرز (الزبيري النعاثلي الشرقي) يتذكر دوره جيداً بالطربوش، وحزمة المال المربوطة (بالمغاط)!
لم أبرح أتذكرك جيداً وأنت تُحيل من (كراتين) البيبسي لمصنع حمد بن حمد القصيبي للمرطبات لوحة فنية بالصور الملصقة عليها (أ / أرنب، ب / باز، ج / جار) للفصل بأكمله.. ولم تكتف بهذا الحد بل أدرجت من ذاتك درس الإملاء من ذلك الحين بصف أول ابتدائي، وكأني بك بنَفَس اللهجة الحساوية مترنماً لنا ومعنا:
هو : (شفتوا الكلمة)؟
نحن: (إيه)
هو: (طالعتوها عدل وزين)؟
نحن:(إيه)
هو: (أمسحها، أخشها..)
نحن: (إيه)
هو: (واحد، أثنين، ثلاثة..
كتبوها ألحين يا شطار ..)
لم أنس طابور المدرسة الصباحي وأرض ساحتها الترابي، وأيضاً وقوفك لتنظيم صفوف المقصف، ورغيف الزعتر بيمينك بالفسحة الأولى، وأنت متكئ على سور الممرات، وحليب مصنع بوخمسين (أبو مزاز ).
أعتقد كل من درسته يستحضر ويتذكر أبوتك، وأنت تساعد كل محتاجٍ أو يتيمٍ أو فقيرٍ بالمال والتحفيز.. وكذاك كل مقصر أوغائب عن المدرسة بالمتابعة والعقاب بالدفاتر والأقلام، والتعليم والتمرين حتى في العطل الدراسية…
أتذكرك جيداً وأنت تأخذ الطلاب من منازلهم، وترجعهم إليها نهاية كل دوامٍ مدرسيٍ بسيارتك (الجيب الميتسيوبيشي، والكرسيدا لاحقاً) دون كللٍ أو مللٍ..
فهل نسيت حصص الانتظار، وتعليمنا كيفية رسم حروف الأبجدية بالطباشير الملونة، وتكرارها مراراً لعدد الصفحات؟!
أم أن الزمن أرهقك بأوجاعه، لتظل دموعك محبوسة في عينيك، وأنت تعانق تلاميذك كلما مروا للسلام عليك بكل محفلٍ أو مأتم؟!
“ياووو” باللهجة الحساوية وتفيد بالاستفهام والتعجب في آنٍ.. وأنت تُمسك بيد ولدي محمد، وتهمس بأذنه بصالة الثلج للأفراح:
“تره اسمك على اسمي، وأنا درست البابا، وأبي أشوفك شاطر مثلي”..
نعم، لقد أدرت عقارب الزمان حولك وعليك يا حبيبنا.. فسل يا صاحبي أبناء أُخته علي ومحمد وحسن أبناء عبد الله الحرز عن حقيقة خالهم بالإدارة والتدريس والمتابعة والبذل من جيبك الخاص دون تذمر!
فهل تتذكر يا أُستاذنا بهجتك: على البيت ناكل حلاوة وشكليت؟
وهل تتذكر وطاق طاق طاقيه
رن رن يا جرس؟
وهل تتذكر لعبة الطحين والحلقوم والركض بالخيشة؟
وهل تتذكر الربيان في الصحن الكبير، وأكله بيمينك (هم، هم)؟
قل لي بربك: هل ما زالت طباشير الإبداع بجيبك؛ أم أن المكعبات وميزان العد للحساب تُراهن عليك إلى يومنا هذا يا أستاذ الأجيال محمد بن علي بن علي الغريب؟