في الأزمات يشتغل الشَّريكان بالتَّفاصيل، فالشَّيطان –كما يُقال- يكمُن في التَّفاصيل، واستثمار تفاصيل المشكلة يمنح كلا الطَّرفين أدلةً على مظلوميَّته، وتجعله يتلمَّس نقاط قوته بين جَنبَات المشكلة وما قيل فيها، وما أنتجته من تحليلات، ويظَلُّ الصِّراع دائرًا في إطار ضيِّق لا يخرج عنه، ثم يتدخل الأقربون والأبعدون ليسمعوا تلك التفاصيل التي لا تخلو من تطاول أحد الشَّريكين أو كليهما في الرَّوايات المتعددة للمشكلة!
يقف أحد الزوجين أمام تلك المشكلة متخذًا منها نظَّارته التي يرى بها مستقبل حياته مع شريكه، ويسحَبُ تلك المشكلة على حياته كلِّها، ويغفل عن ضرورة التَّوقُّف عن تلك المشكلة، والعودة إلى الميزان الصَّحيح لحياته، وفق إستراتيجية “الميزان العام” أو “التقييم الكُلِّي”، وفيها يُرجع (الكاميرا) إلى الخلف، ويلتقط صورة أوسع للحياة، صورة (بانوراميَّة) شاملة، تجعله يرى حياته في مشهدٍ واحد متناسق، ويرى موضع تلك المشكلة بين الممارسات اليوميَّة مع شريكه، وبعدها يستطيع تقييم حياته المستقبلية في ضوء تقييم كلِّي.
يعود ليرى الإيجابيات بجانب السَّلبيَّات.. والمشكلة الحاليَّة بجانب المشكلات السَّابقة، يعود الشَّريك مع ذاته متجرِّدًا من كل عوامل التَّأثير الخارجيَّة؛ ليصل في نهاية المطاف لتقييم واحد يختاره من اختيارين كبيرين: الأول: حياتي صالحةٌ للاستمرار مع هذا الشَّريك مع محاولة تطويرها وتحسينها، والثاني: حياتي لابد أن تنتهي الآن مع محاولة تقليل الخسائر الناتجة عن ذلك الانفصال.
صحيح أنني أهمس في أذن الزَّوجين: لا تنتظر وقوع مشكلةٍ كبيرة حتى تقف مع نفسك للتقييم العام، فإذا كانت حياتك مع هذا الشَّريك لا تستقيم، فيجب التوقُّف الفوري عن التَّسويف، والعمل على تعديل المسار، ويكون الصَّبر حينها هو عينه الصَّبر الممدوح، وهو: الصَّبر على التَّغيير! أما أن يعيش أحد الشَّريكين في حالة أشبه ما تكون بالمخدَّرة بانتظار حدثٍ كبير ينتشله من حياته فذاك لا علاقة له بالصَّبر، بل هو من السَّلبيَّة المقيتة!
إن التَّعدُّد –مثلًا- كأزمة في تقييم حياة كثير من الزَّوجات، ينبغي ألا يكون حَدثًا يجعل الزَّوجة تعيد التَّفكير في حياتها وكأنها لتوِّها تتعرَّفُ على زوجها، وكأنها صُدِمَت من هذا الفعل الذي لم تكن تتوقعه من زوجها!!! وأنا عادة أقول: لا يمكن لزوجةٍ أن تَأمَن بنسبة 100% من عدم زواج زوجها مرَّة أخرى مهما أبدى لها ذلك؛ فالحياة متغيِّرة، وتفكير الرِّجال يتغير بتغير العُمر، وما لا يريده اليوم ولا يفكر فيه قد يفعله بعد سنوات طالما هو من الأبواب الجائزة شرعًا ونظامًا، لذلك ينبغي استثمار التقييم العام بعيدًا عن كل المعطيات الأخرى، فهذه زوجة تقول: زوجي يفعل ويفعل.. ويقصِّر في النَّفقة وفي العِشرة، وكنت صابرة عليه لأنه رجل يُقدِّرني ويحلف أنه لا يمكن أن يتزوج أخرى! ثم ها هو قد تزوج فلن أبقى معه! فأقول: أولًا من الخطأ ادعاء الصَّبر على تقصيره خلال تلك المدة السابقة فهذه سلبيَّة لا صبر، فالتَّنازل عن الحقوق الرئيسة المستطاعَة في الحياة الزوجيَّة لا مبرَّر له، والوَعد بعدم الزواج من أخرى ليس ورقة (فاتورة) تُسدِّدها الزوجة، والزَّوج الكريم لا يُساوم أو يُفاوض عليها، وثانيًا: لو كان يقدِّرك بحق لوفَّاك حقوقكِ، لكن التَّعدد الآن ليس دليلًا على عدم تقديره، فأعرف معدِّدين يعاملون زوجاتهم معاملة راقية، ويحفظون لهم حقوقهم واحترامهم، وأخيرًا: فقرارك فراق زوجك ينبغي ألا يكون بسبب التَّعدد فحسب وقد اتخذتِ من المشكلات السابقة ذريعة لذلك، وإلا فإنه لا مبرر لبقائك مع زوج قد قيمتيه سابقًا أنه لا يصلح زوجًا لتقصيره في كليَّات واجباته الزوجيَّة!
إنَّ الحياة اليوم تموج بالضُّغوطات التي تؤثِّر على ميزان الصَّبر عند الزَّوجين، لكن الأحكام اللَّحظيَّة، والقرارات المرتجلة المتعجِّلة ينبغي ألا تكون قرارات حاسمة تتحكم في مصير حياة زوجيَّة بُنيت لسنوات، وأنتجت الأبناء، وتخلَّلتها سنوات من السَّعادة، وليالي من السَّمر والأُنس؛ ليأتي حدَث عارض ترتفع معه وتيرة الغضب، فإذا ذلك التَّاريخ إلى هباء، وجَمَال الحياة إلى النِّسيان، وليس أمامنا سوى موقف واحد نعيش تفاصيله بكامل شُعورنا ومشاعرنا؛ رغبة في الانتصار للذَّات، وتأديب الطَّرف الآخر! وتحضر النُّفوس التي جُبلت على الشُّح والتَّمسُّك بالحقوق وعدم التَّنازل؛ ليخسر الجميع؛ فالمنتصر في معركته مع زوجته وأبنائه خاسر لا محالة، وإن تبدَّى له انتصارٌ مزيَّف، فحاله شبيهة بتلك التي صوَّرها الشاعر في خُصومته مع قومه:
قومِي هُمُ قَتلوا أُمَيمَ أخي … فَـإِذا رميتُ يُــصِيبـنِي سَهمي
فلئن عَفَوْتُ لأَعفُونْ جَلَلا … وَلَئِن سَطوتُ لأُوهِننْ عَظمي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*مؤلِّف، وباحث لغوي واجتماعي
masayed31@