تنزع النُّفوس –غالبًا- لتصديق السَّلبيّ من الأخبار والأفكار، والنَّظر بعدسات مكبّرة لما هو سيّء، والتَّمادي في التَّفكير في جوانب التَّعاسة الحاليَّة وتوقعها في المستقبل! والأخطر من هذا حين يتعلَّق الأمر بتقييم الشَّخص ذاتَه، وتكسير مجاديف نفسه، فيصبح هو الخَصم والحَكم في الوقت ذاته، فإذا به منطوٍ على نفسه، غارق في بحر من الظُّلمة، بينما هو في واقع أمره مُنعَّم مُترف، لكنه حَرَم نفسه المتعة، وأغمض عينيه عن رؤية الجَمَال!
هذا السُّلوك الانتحاري ينخر في بيوت كثير من الأزواج والزَّوجات –خصوصًا وقت الأزمات- وأعظم وسائل ذلك الانتحار هو (المقارنات) التي يجعلها معيار تقييم نجاحه في حياته الزَّوجيَّة، يُقارن سلوكه مع شريكه بسلوك يراه، أو يحدِّثه عنه صاحبه أو زميله، يُقارن وضعه المالي بوضع غيره، بل يُقارن زوجته بما يسمعه عن زوجات الآخرين! وأحيانًا يقارنها بأخواته ومحارمه! وأحيانًا تقع المقارنات مع بعض المشاهير في وسائل التَّواصل الاجتماعي، فما أشد بؤسه أو بؤسها حين يكون الآخرون مصدر تقييم ذواتهم!
المقارنات تدعوك لتكرار حياة الآخرين شكليًا دون مراعاة خصوصيَّة كل حياة..
المقارنات تدعوك للتضجُّر من حياتك وطمس كل معالم السعادة فيها..
المقارنات تدعوك للاشتغال بما عند الآخرين، وفقدان ما في يدك..
المقارنات تدعوك للبقاء في الجوانب الشكليَّة، والمفاخرة بالمظاهر..
المقارنات تدعوك للانتحار البطيء وفقدان رُوح الحياة، وجَمَالها..
المقارنات تدعوك لجحود نعم الله، وترك شكره على نِعمه..
إن أيّ من الشَّريكين لا يقبل من الآخرين أن يُقيِّموا حياته وينقدوه نقدًا سلبيًا لكنه في الوقت ذاته يسمح لنفسه أن تتجاهل تلك النِّعم العظيمة التي تغمره؛ لتنظر من زوايا جزئيَّة ضيِّقة تجعله لا يرى إلا النَّواقص، ولا تقع عينه إلا على عيوب شريكه، ولو قُدِّر له أن يرى الصورة الكاملة لحياة مَن يُقارن نفسه به لرضي بما عنده! فكم من امرأة تَظهَر في وسائل التَّواصل بصورة المترفة السَّعيدة، التي تتنقل فيها بين التَّنزُّه والسَّفر، والتسوُّق، والمطاعم، والكماليات، وجَمال البيت وغير ذلك، بينما تجد مَن تَعرفها عن قُرب لا تتمنى أن تكون مكانها.. فالمظاهر مهما كانت لا تُسعِد الرُّوح..
إن كلَّ فرد مختلفٌ عن غيره إذا نظرنا له بمفرده، فإذا اشترك الزَّوجان في حياة أصبحا بهذا الاندماج الثُّنائيّ أكثر اختلافًا عن الآخرين! فتكوينهما الفكري، ومكتسباتهما الاجتماعيَّة، وبيئتهما السَّكنيَّة، وتاريخهما التَّربوي، وروافدهما المعرفيَّة، وغير ذلك مما لا يمكن حصره يختلف عن حياة الناس أجمعين سلفًا وخَلفًا، فكيف يمكن مع ذلك الاختلاف عقد المقارنات؟! لذلك فإن من المهم غرس عدة مبادئ مهمة خصوصًا في السَّنوات الأولى للزَّواج، تكون كأسوارِ حماية، فلا يلومُ زوجته على طَبع لا دخل لها به، أو صفة خَلقيَّة لا تستطيع تغييرها، كما عليه أن يبذر في نفسها قوة الشخصيَّة التي تجعلها لا تتأثر سلبيًا بوصف الأخريات أو حديث الحاسدات المفسدات، أو مقارنات الجاهلات، وفي الوقت ذاته على الزَّوجين أن يقارنا حياتهما كل مدَّة بما يودُّون الوصول له من أهداف، وما يرغبون بتحقيقه من نجاحات، ولا يجعلون حياتهم ريشةً في مَهب المقارنات المجحفة التي لا تُراعي خصوصية ما وهبهما الله من قدرات.
إنَّ (الحُبّ) الذي يتراءى لكل زوجين، وتسعى إليه كلَّ رُوح، فلا يدركه بحقيقته إلا القلَّة القليلة ممن يستمتع به ولا يقوى على وَصفه! يتشكَّل في كل حياة زوجيَّة بصورة تختلف عن الآخرين، فقد يجد الزَّوجان متعتهما فيما يُعد مصدر مشكلةٍ في حياة زوجين آخرين، ولو قُدِّر لزوج أن يُقلِّد حياة زوج آخر لفسدت حياته.. وقديمًا قال أحدهم:
تَعشَّقتُها شَمطاءَ شَابَ وليدُها … وللنَّاسِ فيما يعشقُونَ مذاهِبُ
وذُكر أن بثينة دخلت على عبد الملك بن مروان فقال لها: يا بثينة ما أرى فيك شيئا مما كان يقوله جميل! فقالت: يا أمير المؤمنين إنه كان يرنو إليّ بعينين ليستا في رأسك!.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*مؤلِّف، وباحث لغوي واجتماعي
masayed31@