في اللحظة التي تبدأ تخرقك الثقوب، في اللحظات التي تتواصل فيها انكساراتك، وتنكسر فيها مجاديفك، وتُرهقك تقلبات الدنيا وتقذفك في أودية الترنح والتيه والبعثرة والتمحيص! عندها فقط تكون قد وقفت عند باب البصيرة، لترى ما لا يُرى، وتلمح فيما خلف الحُجب من الطاف خفية ومرايا عكسية تجعلك في قلب المواجهة مع أخطاءك المعروفة والمجهولة، وخطاياك الحاضرة في ذهنك والمنسية.. وحينها يُمكننا القول أنك قد بدأت تسير في الطريق الصحيح.
عندما يتكبر الانسان، ويتعاظم زيفه، ويمشي مكباً على وجهه، ويضل سعيه وهو يظن انه قد أحسن صنعاً، ويتجذّر الران على قلبه، وتسكن الغفلة في فؤاده! تلتقطه الصعوبات من حيث لا يدري، فيضل طريق الراحة، ويتوه عن دروبه التي يعرفها، وتنخر العقوبات في جسده ونفسه وعقله وقلبه، ويبدأ في رحلة التقهقر التي تغافل سابقاً عن تنبيهاتها واشاراتها! ليسقط في الوحل، ويبحث عن النجاة.
وحينها يمكنه فقط الشروع في رحلة البحث عن الأسباب، فيتفحص نفسه المكلومة، ويمعن النظر في جسده المرهق، ويتأمل في افعاله المشؤومة، وينظر فيما جنت يداه من خطايا مجنونة، منهجه في ذلك قول الرومي: (كن كالثلج الذائب طهر نفسك من نفسك).
ورحلة التأمل تبدأ ولا تنتهي فيظل الانسان -بالدعاء والابتهال- كل يوم في شأن مع نفسه، يحاور ضميره، ويزيل الران عن قلبه، ويعدل ما اعوّج من حياته، ويُرمم ما انكسر في قلبه.. ليبدأ يتدرج في “مدارج السالكين” تطهيراً وتحسيناً وتطويراً، طموحه في كل ذلك أن يقتفي دروب الصالحين، وأن يلقى ربه بقلب سليم.
ثم ماذا؟ يواصل مرحلة الصقل والترقي في معاريج السماء ليُلاحظ كل افعاله، ويضع كل تصرفاته تحت ضوء الوعي الكامل، ليعرف حينها أن كل شيء يحصل له صغيراً كان أو كبيراً هو رسالة من الله فما قول ذلك الرجل: (والله ما أذنبت ذنباً إلا رأيت أثره على زوجتي أو ولدي أو دابتي) إلا تأكيد على قوة الحضور في قلب الوعي، والابتعاد كل البُعد عن الغفلة، والتنظيف أولا بأول حتى لا يلقى الران مكان يسكن فيه، ولا ترهقه سِياط الضمير وصرخاته المزعجة.
حكمة المقال
كلما اقتربنا من ذواتنا أكثر كلما انكشفت لنا الحقيقة! وحينها يمكننا أن نقول كما قال أحد الفلاسفة: (أطفئوا النور لكي أرى)!.