دراما النعام
بقلم الكاتبة الإعلامية السعودية/ غادة البشر
في الماضي كنا نرد على مُعادين الفن من ارباب الصحوة المزعومة وذيولها وغيرهم بتعريف الفن ووصفه بالرسالة، ونحن نعي تمامًا ان وصفنا في محله، وأننا صادقين، ولم يكن صدقنا مزيفًا ولا ثقتنا وهم، لأن مخرجات الفن وتأثيره على المجتمع والأفراد كان جليًا وإيجابيًا، طبعًا باستثناءبعض الاعمال التجارية الربحية الرخيصة المسيئة للفن والبعيدة كل البعد عن المجتمع وقيمة، والتي كان لها احيانًا ابعادَا سياسية، لكننا كنا اكثر صدقًا ووفاءًا لرسالة الفن في أعمالنا التي تعدت مرحلة الطرح إلى المشاركة الفاعلة في الحل والتغيير، لذلك استطعنا بالفن ومن خلاله خطابوسلوك ان نصحح اوضاع ومفاهيم، ان نبني ونطور، ان نحارب وننتصر، أن نربي جيلًا مثقفًا، مبدعًا، واعيًا لرسالته ودوره المجتمعي والوطني، بل أني أعرف أشخاصًا بعينهم أرتقوا قمم الإبداع العلمي والأدبي والثقافي وقدنشأوا في أُسر لا تُحسن التربية ولا تفقه شيئًا من ذلك، ولكن ارتباطهم بالدراما منذ الصغر هو من خلق منهم اشخاصًا مبدعين وباعتراف منهم، في الوقت الذي كان الانحراف والضياع يحيق بهم، وهذا يؤكد ويبرهن على قيمة واهمية الفن كأداة فاعلة وحيوية في محاربة الانحراف والإرهاب والتطرف الفكري والأخلاقي.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن، هل نستطيع أن نجيب بذات العفوية والثقة والمصداقية في تعريفنا ووصفنا للفن؟!! أم سندفن رؤوسنا في الرمل مثل النعام معترفين بفقر الفن والدراما في زمن ثراء الإنتاج والتقدم التقني؟!!
أعتقد أننا بحاجة لوقفة تأمل وإعادة صياغة لما يُقدم ويُطرح من رسائل ومضامين، يزيد من سلبيتها ورداءتهاالسيناريوهات الفقيرة لغًة وفكرًا، سيناريوهات لا تحمل أي دلالات تحث على الإيجابية والفضيلة والقيم والأخلاق، ولاتنشر العلم والأدب والثقافة، أو تُعلّم لغة وأسلوب المعاملة والحوار كما كان في السابق، لقد اختفت الرموز والدلالاتالجيدة من الأعمال الدرامية والسينمائية وأحيانًا المسرحية، وحلت محلها دلالات معززة لكل ما هو قائم اليوم من قصور وتخلخل يهدد البناء المجتمعي والتكوين الشخصي للجيل الحالي والقادم، جيل العولمة وأسرى التكنولوجيا والتقنية والأبواب المفتوحة على مصراعيها دون توجيه أو إرشاد، ودون خبرة أو أدوات.
الحقيقة أن دور الفن خطابًا وسلوكَا قد تراجع في الوقت الذي ينبغي فيه أن يتضاعف ويزدهر من اجل أن يأخذ دوره المفترض في إنقاذ مجتمعاتنا وأجيالنا القادمة، وأعتقد أن الأعمال الرائجة التي تسّوق للانحدار السلوكي والأخلاقي، يجب أن يقابلها أعمالًا قيّمة تنتصر للقيم والأخلاق والفكر والثقافة.
والحمد لله أن الاعمال الاستثنائية الجيدة البنّاءة حتى أن كانت قليلة مقارنة بالأعمال الرديئة لا تزال موجودة، فوجودها دليل إثبات على خطأ نظرية التبرير للأعمال الفنية الرديئة بأن هذا ما يريدهُ الجمهور، فالجمهور ذاته متعطش للأعمال الجيدة، ونحن المسئولون عن تشكيل ذائقته والارتقاء بها من خلال ما نقدمه له من أعمال ممتلئة بالدلالات والاملاءات والإيماءات التي نختارها ونُسوقَّ لها، والحقيقة العلمية تقول بأن العين تألف ما تراه دائمًا وتتكرر مشاهدته، فمثلًا عندما كنا نشاهد في الاعمال الدرامية القديمة الاحترام والأدب في أسلوب التخاطب مع الوالدين وكبار السن أخرجنا جيل يحترم والديه وكبار السن، وحتى أن كان تربى على ذلك فالمشاهدات المتكررة عززت ما تربى عليه من أدب واحترام، وأن لم يكن تربى على ذلك فالمشاهدات عالجت هذا العيب وصححته، وبالمثل مشاهد رفع الصوت في الحديث مع الوالدين وكبار السن واستخدام لغة الشارع معهم التي ألفناها في الأعمال الدرامية الحالية، أخرجت جيل يتحدث ذات اللغة ويمارس نفس الأسلوب.
وقد يظهر من يعلق ويقول ما كان يُقدم لجيل الأمس لن يلقَقبولًا لدى جيل اليوم، فلكل جيل لغة وطريقة، وانا أدركتمامًا ذلك لكني لا أتحدث عن الطريقة واللغة إنما اتحدث عن الثوابت، اما اللغة والطريقة فيُعنى بها كاتب السيناريو الواعي المثقف الذي يتقن توظيف طريقة ولغة هذا الجيل لطرح ذات الثوابت بأسلوب يفهمه ويناسبه دون ان يبتذل ويتنازل، مع التركيز على مضمون يلامس هموم واحتياجات إنسان اليوم ومناقشة قضاياه الحقيقية المُلحّة.
ولهذا فأحد أهم أسباب تراجع مستوى الأعمال المقدمة هو غياب كاتب السيناريو الواعي المثقف سياسيا واجتماعيًاوالمؤهل لخلق صورة ذهنية جديدة من خلال نصوص ثقافية واجتماعية نهضوية عن الساحة رغم عدم خلوها أو إفلاسها منه، وذلك بعد سيطرة توجه الهيمنة الربحية على قطاع الإنتاج، والذي دفعه للتركيز على الأعمال الأكثر إثارة وإبهار للمشاهد، متغافلًا عن القيمة فيما يعرض، مع أن الربح يمكنه أن يتحقق بتحقيق التوازن في التنويع والتجديد، من خلال تقديم المحتوى الأكثر مساساً بالحياة العامة ومستجداتها في إطار أخلاقي راقي، بالإضافة إلى الإنتاج المبهر والإخراج المحترف فليس هناك تعارض، لكن للأسف حتى المبادرات التي يتبناها قطاع الإنتاج حاليًا سواء قنوات أو مؤسسات، والتي أحيت بداخلنا الامل باتت تفرض قيودها على كاتب النص وتحصره داخل حلقة الإبهار والإثارة الفارغة من المضمون، لنبقى أسرى لدراما النعام.