ماذا لو امتلكنا خاصية الرجوع إلى أيامنا الماضية، فهل سنجرؤ على تحوير مجريات أحداثها،
بحيث نعكف على تصفية جوارح الشعور وشوائبه بغربال الرغبة المتعطشة،
أم سنسارع بالوصول إلى النهاية الصادمة دون إبطاء، أم هل سنكرر الوقائع ذاتها حتى يحين أوان المنعطف الأخير،
وحينذاك نقوم فقط بتغيير وجهة المسير دون أن ننقض غزل المجريات الفائتة؟!
هذه ثلاثة أنماط من أنماط الوعي ما نفتأ نختبرها حتى نصل إلى مرحلة النضوج والاكتمال العاطفي.
وهي تبدأ بالضرورة بسلوكيات تحتل المراتب الدنيا من درجات الوعي حتى تصل لمراتب متقدمة نحو الاستنارة الروحية
إذا ما قدرنا على الإفادة مما قد ألمّ بنا ولم نصر على اجترار الألم وكشط غطاء الجراح وقتًا طويلا.
فالنمط الأول يُسيّر صاحبه وهو مشدود معظم الوقت إلى مرساة الماضي،
وليس بغريب أن كل وخزة تألم وأسى مردها إلى ذاك العهد السحيق،
بينما النمط الثاني يكون مَن هو عالق بشراكه فريسة للندم المتجدد،
فهو على الدوام لا يتراءى نصب عينيه سوى التوجس والشكوك مع أي شخص وفي أي طريق،
أما النمط المتفوق الذي عُني بلب الأمور لا بقشورها؛ فهو يشمل كل ما اجتازه يومًا بعين الرضا والامتنان،
يرى جميع تجاربه وخبراته السابقة بمثابة سفح شائك قضى فيه ما قضى غير
أنه تمكن في نهاية الأمر من تسنم قمة الرفعة والسمو.
هؤلاء المتفوقون: عظماء ببساطتهم، أقوياء بسلاستهم، سعداء بتغاضيهم،
ينظرون دائمًا إلى صور حياتهم بمنظور شمولي متجاوز لا بعدسة مقربة تترصد الشقوق والانشطار في كل زاوية.
بداهة ليس ثمة سيناريو أفضل لحياة المرء مما قد عايشه واختبره بالفعل،
أيًا كان الظرف والمناخ الذي أُخضع للمرور عبر نفقه المظلم فهو دون مراء جزء من الطريق المفضي
إلى عوالم أرحب يفيض فيها الحب السامي غير المشروط، حيث الهدوء المطلق والسلام الداخلي،
وحيث تتحد مغفرة الله ومحبته مع الغفران الكلي للأحداث ولمن كان لهم أية صلة بها.
فكما أن نقطة الوقف وأخواتها من علامات الترقيم مرغوب بها لتأطير عين القارئ عند مطالعة نص معين،
فكذلك الألم والأحداث على علاتها ضرورة أولية لتطهير النفس وانعتاقها من قيد المشاعر وتخبطها،
ولولا تذبذب أمواج اليم بين علو وهبوط لما استطاعت قط أن تلامس صخور الساحل.
ولولا ارتطام مياه النهر على ضفتيه لما تشكّلت قنوات جديدة تكتنفها أشجار مدلاة أغصانها بالظل وإكليل الزهر.
ولأن الحقول قد جُبلت على أن تُنبت بدقة ما يستقرّ في أرحامها دون زيف،
ولأن الثمر لا يُستخلص منها غير ما امتلأت به قبلا، فكذلك الشعور الصادر عن النفس يُوفّى بمثله سواء بسواء.
وكنقطة أخيرة عليك أن تتذكر أنه لا يهم في التجارب العاثرة مقدار ما تألمت ولكن الذي يهم حقًّا هو قدر ما تعلمت.
﮼نايف،مهدي௸