الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم-، وبعد…. فإنه مما يجب على العبد أن ينوي بأعماله كلِها وجهَ اللهِ -تعالى-، والتقربَ إليه، وطلبَ ثوابِه، واحتسابَ أجرِه، والخوفَ من عقابِه، وأن يكون في كلِ عمله حريصًا على تحقيق الإخلاص وتكميله، ودفع كل ما يضاده من الرياء والسمعة وقصد المحمدة عند الخلق ورجاء تعظيمهم، لكن لا شك أن بعض الطاعات يكون الإسرار في أدائها أفضل من علانيتها، لأن طاعة الخفاء تكون أدعى للإخلاص، فالله –تعالى- يقول عن صدقة السر:
{وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (البقرة: 271)، قال الإمام السعدي – رحمه الله تعالى-: [أي: {إن تبدوا الصدقات} فتظهروها وتكون علانية حيث كان القصد بها وجه الله {فنعما هي} أي: فنعم الشيء {هي} لحصول المقصود بها {وإن تخفوها} أي: تسروها {وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم} ففي هذا أن صدقة السر على الفقير أفضل من صدقة العلانية].
وعن ابن عباس – رضي الله عنهما – “صدقةُ السِّر في التطوع تفضل على علانيتها سبعين ضعفًا، وصدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفًا، وكذلك جميع الفرائض والنوافل في الأشياء كلها”
وفي السنة المطهرة أيضًا أن صَدَقة السرِّ تطفئ غضب الربِّ، وفي حديث السبعة الذين يُظلُّهم الله في ظلِّه أعمالُ خيرٍ خفيَّة عن أعين الناس؛ وهي رجل قلبه مُعلَّق بالمساجد؛ حيث لا يعلم تعلُّق قلبه بالمسجد إلا الله، كذلك الذي تصدَّقَ حتى لا تعلم شمالُه ما تنفق يمينُه، ولا يعلم بعمله هذا في توزيع الصَّدَقة على الناس إلا الله، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضَتْ عيناه، فهو لم يتصنَّع البكاء أمام أحد ولم يُر؛ بل في مكان خالٍ لا يراه إلا الله – سبحانه وتعالى-.
وفي فضل إخفاء الأعمال الصالحة أيضًا صلاة التطوُّع تكون في منزل الإنسان بحيث لا يعلم بتطوُّعه لتلك الصلاة إلا الله؛ قال الرسول عليه الصلاة والسلام: “خير صلاة المرء في بيته، إلا المكتوبة”.
وكذلك في قراءة القرآن الكريم جاء في السنة عن عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: “الجَاهِرُ بِالقُرْآنِ، كَالجَاهِرِ بِالصَّدَقَةِ، وَالمُسِرُّ بِالقُرْآنِ، كَالمُسِرِّ بِالصَّدَقَةِ”: وَمَعْنَى هَذَا الحَدِيثِ أَنَّ الَّذِي يُسِرُّ بِقِرَاءَةِ القُرْآنِ أَفْضَلُ مِنَ الَّذِي يَجْهَرُ بِقِرَاءَةِ القُرْآنِ، لِأَنَّ صَدَقَةَ السِّرِّ أَفْضَلُ عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ مِنْ صَدَقَةِ العَلَانِيَةِ، وَإِنَّمَا مَعْنَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ لِكَيْ يَأْمَنَ الرَّجُلُ مِنَ العُجْبِ، لِأَنَّ الَّذِي يُسِرُّ العَمَلَ لَا يُخَافُ عَلَيْهِ العُجْبُ مَا يُخَافُ عَلَيْهِ مِنْ عَلَانِيَتِهِ.
وقد جاءت كتب السيّر أيضًا بالكثير من الأمثلة والنماذج عن الصحابة والتابعين الذين يجتهدون في عباداتهم لله – تعالى- سرًا؛ لما يرونه من أن عبادة السر تكون أدعى للإخلاص، وهذا بلا شك يكون في غير الفرائض أو الجُمعات والأعياد والعبادات التي لا غنى عن العلانية فيها، وقد روي أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- كان يتعاهد عجوزًا كبيرةً عمياء في بعض حواشي المدينة من الليل، فيستقي لها ويقوم بأمرها، فكان إذا جاءها وجد غيره قد سبقه إليها، فأصلح ما أرادت، فجاءها غير مرة كيلا يسبق إليها، فرصده عمر، فإذا هو بأبي بكر الصديق الذي يأتيها، وهو يومئذ خليفة ، فقال عمر: أنت هو لعمري.
وفي زين العابدين علي بن الحسين بن علي خيرُ مثالٍ في أعمال البرِّ الخفيَّة، فلقد ذُكر عنه أنه كان يحمل الخبز بالليل على ظهره، يتبع به المساكين في الظُّلْمة، ويقول: إن الصَّدَقة في جوف الليل تطفئ غضب الرب. وكان ناس من أهل المدينة يعيشون، لا يدرون من أين كان معاشهم، فلما مات علي بن الحسين، فقدوا ذلك الذي كانوا يؤتون بالليل، ولما مات علي بن الحسين وجدوا بظهره أثرًا ممَّا كان ينقل الجُرُبَ بالليل إلى منازل الأرامل.
وقد استحب أهل العلم إظهار بعض الأعمال الصالحة؛ للتحريض عليها، وحث الناس على فعلها، والاقتداء بصاحبها، قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “من سن في الإسلام سنة حسنة، فَعُمِلَ بها بعده، كتب له مثل أجر من عمل بها، ولا ينقص من أجرهم شيء” (رواه مسلم).
إذًا، فإن إخفاء العمل الصالح منهج شرعي تضافرت الأدلة على الحث عليه في معظم الأعمال، إلا ما كانت الحاجة فيه الإظهار كصلاة الجماعة؛ ولذا يقول الحسن – رحمه الله- حاكيًا حال السلف: ” لقد أدركنا أقوامًا ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملوه في السر فيكون علانية أبدًا”.
أخفى الله القبول لتبقى القلوب على وجل، وأبقى باب التوبة مفتوحًا ليبقى الانسان على أمل، وجعل العبرة بالخواتيم لئلا يغتر أحد بالعمل.
ولو كان الشكل والجسم أهم من الروح ما كانت الروح تصعد للسماء والجسم يدفن تحت التراب، فالمعيار عند الله التقوى وليس الأقوى: “إن أكرمكم عند الله أتقاكم”.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كاتب سعودي
عضو مجلس إدارة شركة حجاج أفريقيا غير العربية