الألم في باطنه ولبابه كالهَمِّ الإنساني في كمونه ولذعته وخفائه، صخرة صمّاء عصية على الكسر أو البوح صراحة عما بداخلها، إذ لا يمكن مهما بلغت من درجات الشفقة والتعاطف أن تطلع على كُنه الشعور الذي يشعر به المصاب نفسه، ناهيك عن الإحساس به، ولن تقدر بحال على أن تقترب حتى من حدوده ونواحيه، سواء أكان ذلك ألمًا جسيمًا أو مجرد حرق طفيف في طرف إصبع.
إن للأوجاع فردانيتها وطابعها المستقل الذي تدمغه كل نفس، ويعنونه كل وجدان بآلية استقباله وحدها.
من البداهة بمكان أن لكل منا عالمه الخاص، عذاباته الخاصة، ومكعب منغصاته الشخصي الذي يحاول في شرود أن يدير قطعه بقلق، كي يفك لعنة ذلك الطلسم ويفتح استغلاقه، وغالبًا ما تتجسد هذه المحاولات في هيئة شكوى ومرارة أو نجوى أو حديث نفس محتدم، تتعثر قليلًا حتى تصطدم بجدار اللاجدوى.
وإننا إذ نسعد بعد زوال كربة مطبقة ليس مرد ذلك قوة إرادة أو طول جلد أو ظلال تنفيس ما، إنما يشير ذلك، بشكل أو بآخر، إلى أن للألم أوانَ حلول وكذلك له أوان أفول وخفوت وانطفاء، كأطوار القمر التي تتناوب في صفحة السماء بنظام حاكم صارم ، وأن أي مساعٍ حثيثة ما بين ذينك الأوانين لا تعدو أن تكون عبثًا ممجوجًا وجعجعة خاوية، من شأنها أن تورث الإحباط والتخبط السقيم.
حتى شعور المواساة الذي يتنابنا حيال منكوب ما غالبًا ما تشوبه نوايا خفية لا تبرز على سطح وعينا أثناء سيرورة الحدث نفسه، في الحقيقة، قد يكون دافع سلوكنا ذاك هو أننا نتمثل أنفسنا في خضم ذلك الموقف المأزوم الحرج بدلًا من ذلك التعس الذي تقلبه أعيننا بحيرة وإشفاق، وحينذاك فقط نبادر بالغوث والعون، ونكيل عباراتنا العاجية تخفيفًا لما قد أحاق به ودفعه لطرق أبوابنا، وكأننا بتلك الخطابات المطاطية المثقوبة نحشد حولنا جمعًا لفيفًا غير منظور يحط عنا الحمل في ذلك المشهد العقلي المُغيّب.
وما لفت انتباهي صبيحة هذا اليوم هو قراءة مقولة برّاقة لأحد الكتاب، تنقصها الواقعية والثبوت والصحة، يقول فيها( السعادة ليست حياة مترعة باللذة إنما حياة خالية من الألم) ولكن أحقًّا هناك حياة خالية من الألم من طراوة المهد إلى قساوة اللحد؟! وأن السعادة- التي هي حالة مزاجية عابرة كغيرها من الحالات الشعورية المتداخلة في الإدراك البشري- لا تثبت إلّا بخلو الحياة من الآلام؟! كلا، إن ذلك ضرب من المحال والمثالية الزائدة، لأن ليست هناك حياة مترعة بشيء محدد على وجه الخصوص أو خالية من أي شيء، فالحياة تحوي المتناقضات بتعلاتها وتنوعاتها، كالبحر الذي يضم في لجته الدر والحجر، والفريسة والمفترس، وسدف الضياء ودياجير الظلم. إن اللذة والألم مشبوكان بوجود الإنسان اشتباكَ الأجنة بحبال السرة المزرقة في رحم الأمهات، وتغليب إحدى الحالتين على الأخرى بإفراط باطل من الأباطيل، وتفاهة مطلقة لا يمررها إلا عقل الساذج الغر أو القانط المتخشب. الحياة في عمومها وصروفها، تتطلب العيش الحكيم والموازنة المحسوبة للعبور منها بأقل الخسائر وأهون المتالف، وذلك يتمثل في التنعم الآني والتماهي العميق مع ساعات اللذة، والإغماض والتصبر على وقع الألم حال وقوعه حتى تنبثق إشراقة لذة أخرى، ثم لا تلبث أن تعاد الكرة ذاتها المرة تلو المرة بلا انقطاع. وعلى هذا الطريق القسري يستمر دوران عجلة الحياة بلا توقف، ولا محيد عن ذلك الدرب الذي سلكه السالكون في كل الأزمنة إلا بالسقوط في غياهب الموت وانتفاء الحياة.
التعليقات 3
3 pings
زائر
25/06/2023 في 8:19 م[3] رابط التعليق
يا الله ما هذه الاحاسيس الشفافة والمرهفة يا استاذ ناىف ابدعت ابدعت حقا
زائر
28/06/2023 في 12:41 م[3] رابط التعليق
مبدع ي ابا فهد كعادتك ✌🏻✌🏻✌🏻
حتر
28/06/2023 في 12:42 م[3] رابط التعليق
ابدعت كعادتك ي صديقي 🤙🏻🤙🏻🤙🏻