في رحلة حياة الإنسان تواجهه الكثير من المنعطفات والتجارب التي قد تصنع منه نسخة مختلفة في كل مرحلة، وفي ظل هذه التقلبات الحياتية، قد يحتاج الإنسان إلى حديث مع النفس يصلح ما حل بها من نائبات الدهر، وكان لنا في أسمى المهن مساحة للتوقف وتجديد أرواحنا ومعالجتها بالطب النفسي، هذه الجنود المسخرة لمد يد المساعدة لمن أضل طريقة نحو ذاته، فالنفس أساس الإنسان ومنبع وقود يحتاجه لإكمال الرحلة.
الطب النفسي كغيره من مجالات الصحة التي تقدم جودة حياة عالية لمراجعيها وتساهم في علاجهم وتطبيبهم، وللتعرف أكثر حول حنايا هذا العلم القيم نحاور الأخصائية النفسية/ حزوا العجمي، لنسلط الضوء بصورة أعمق من وجهة نظر المختصين بهذا المجال.
1- لكل قصة نجاح بداية.. ومواقف وتجارب صنعت منها قصة ملهمة في الوصول والمثابرة، فكيف كانت رحلة حزوا العجمي وماهي أهم محطاتها؟
رحلتي بدأت من جامعة الملك سعود تحديدًا قسم علم النفس، في صفوف الدراسة كنت أبحث عن أجوبة لأسئلة من قبيل: لماذا يشقى الأنسان؟ وكيف نفهم شقائه؟ ومالحل مع ذلك؟ ماهي الشخصية؟ وكيف نختلف عن بعضنا البعض وكيف نتشابه؟ ومالعوامل المؤثرة في تشكل شخصياتنا؟ كيف يتغير الانسان؟ وكيف يحدث التغيير على مستوى الأسرة والمجتمع؟…
وإلى ماله نهاية من الأسئلة التي وجدت لها حيز في حياتي حتى قبل فترة الجامعة، منذ سنوات طفولتي في المرحلة المتوسطة كنت قد اتخذت قرار بأنني سأصبح أخصائية نفسيه، على الرغم من عدم رواج هذه المهنة ذلك الحين، بمعنى لم أسمع عن أخصائيين أو عيادات ولم أجد من حولي أي متخصص، كان قراري مدفوع بالكثير لكن أُحب أن أصيغ اختياري بهذه الطريقة “قررت أن أتخصص في أكثر شأن معنوي من شؤون الانسان، حيث يمكن تهميش هذا الشأن والتضحية به لصالح الشأن المادي المحسوس (مع كامل الأسف) إن أكثر ما يهمني في هذه الحياة وجدان الإنسان، هذا الجانب المرهف والحساس والبالغ الأهمية، أود أن أكون بمثابة الناطق الرسمي لهذه النفس والمدافع عنها والمُراعي والمعتني بها، والمنهمك في مهمة فهمها وتفسيرها ومعالجتها إن مسها شيء من نوائب الدهر وأوجاع الحياة.”
تلى تخرجي من الجامعة حصولي على التدريب والاشراف تحت نخبة من المتخصصين في السعودية ومن خارجها حيث حصلت على دورات تدريبية في العلاج المعرفي السلوكي بموجاته الحديثة والعلاجات القائمة على الأدلة العلمية، كنت محظوظة جدًا بدعم مشرفيني وكل من التقيته وتعلمت منه في مهنتي، وها أنا اليوم أتعلم الكثير من مراجعيني في العيادة، لا يقتصر التعلم على الكتب والدورات والأخذ بمشورة الاساتذة الكبار، بل أيضا يحدث مع هذا الانسان الذي أعطاك الثقة و وهبك هذه الفرصة العظيمة أن تكون بمثابة شريك لرحلته في حل شيء من المعاناة أو الصعوبات التي تواجهه، إنها هِبة عظيمة!
يميل الإنسان دوما لزاوية معينة من عمله، يفضلها وتزيد شغفه نحو الاستمرارية، بينما في المقابل قد يواجه عواصف مدمرة تتطلب منه القوة والثبات أمام رياحها…
ما هو الجانب الأكثر ملاءمة لحزوا؟ وما هو الجانب الأكثر تحديًا بالنسبة لها في مجال العلاج النفسي؟
إن فهمت سؤالك جيدًا، أكثر ما يلائمني في مهنتي هو ما يحدث بين اثنين في تواصل عميق وآمن، أُحب أن أنصت، وأن أخلق مساحة آمنة، يدفعني فضول كبير نحو فهم الانسان الذي يحدثني في هذه اللحظة، إنها عمليه مدهشة أن تنصت لكل ما يقوله هذا الانسان وما لا يقوله، وأن ترعى وتعتني بحيثيات قصته حيث سلامة الفهم والتعاطف بأن أتخيل نفسي في موضعه وأشعر بما قد يشعر به شخص في هذا الموضع، أن أتقمص الشعور والتجربة، نصيغ المفهوم وننظر في إمكانية الحل،
أما عن الشق الثاني من السؤال
ربما ما يشكل تحدي هو وجود من يرغب بخدمة العلاج النفسي لكن واقعه جدًا صعب ويُحيل بينه وبين الحصول على الرعاية اللازمة على سبيل المثال أذكر منذ أكثر من سنتين قدمت استشارات مجانية هاتفية وكنت اتلقى اتصالات من أشخاص في مناطق بعيدة ونائية في المملكة، تحديدا الاناث اللاتي لا يستطعن الحصول على الخدمة بسبب رفض أهاليهن الذهاب لمعالجين كما أنهن غير مستقلات ماديًا ويصعب حتى دفع تكاليف العلاج عن بعد، كذلك الحالات التي تتضمن عنف شديد أو ظروف مجتمعية واقتصاديه وثقافية صعبه، سنشعر بالعجز أمامها لأنها تتطلب حلول شاملة تتجاوز مجرد الحصول على علاج نفسي، تشكل تحدي لكن أحب العمل مع الجميع بل ويمدني الكثير من المعنى عند العمل مع الأشخاص الذين يمرون بظروف صعبة، دائمًا هناك شيء يمكن أن يقدمه العلاج النفسي لزيادة مرونة الانسان ومقاومة ما يواجه من ضغوط وأيضا لإحداث تغيير ايجابي في ظروفه الصعبه، لكن المقصود هنا بالتحدي بأن العلاج ليس الحل الوحيد والكافي في مثل هذه الظروف بل يتطلب تدخلات من تخصصات ومؤسسات أكبر.
نصف تطور المجتمع وتقدمه الحضاري يقاس بمدى وعيه وإلمامه بالعقبات التي قد تواجهه وكيف يتعامل معها ليصل لنسبة صفرية في كل سلبياته، أو على الأقل يعيش تحت شعار الوقاية خيرا من العلاج..
من وجهة نظرك الخاصة هل تعتقدين أن هناك تحسينات في نهج المجتمع تجاه التفهم والتصدي للأمور المتعلقة بالصحة النفسية؟
أعتقد أن هناك وعي متزايد بشأن الصحة النفسية وهناك إقبال كبير على العيادات النفسية، الاشكالية هي أن هذا الوعي قد يقابله في الواقع عدم توفر لخدمات الصحة النفسية، حيث النقص في عدد الكوادر في القطاع مما يشكل ضغط في العيادات الحكومية والخاصة فتصبح فترة الانتظار بين كل موعد طويلة جدًا أيضا هناك تخصصات دقيقة نحن بحاجة للتأهيل فيها، لعل الأمر يتحسن في الفترات القادمة حيث توجد مبادرات ومشاريع وطنية تسعى لتحسين الوضع وتطوير الخدمات والكوادر المتخصصة.
في المجتمعات العربية بشكل عام، يخاف ويتردد البعض من خوض تجربة العلاج النفسي، فكيف يمكن أن نشجع الأفراد على طلب المساعدة النفسية وكسر حاجز الخوف من نظرة المجتمع؟
ربما يكون هذا الحاجز وهمي أو حتى حاجزًا هش يمكن تجاوزه عند إدراك الشخص أنه من المكلف أن يحيا حياة محدودة وغير متعافية حيث المعاناة التي يمكن علاجها وتفاديها، لكنه يقدم حياته وراحته كمقابل يدفعه للآخرين! أما الآخرين قد يكونون مشغولين بتحسين حياواتهم ومداواة أنفسهم، وغير مكترثين حقًا، لكننا نضخم من حجم فكرة أن الاخرين سيحكمون عليك لمجرد انك تعتني بصحتك النفسية، الانسان الواعي والمسؤول هو الذي يبادر نحو الاعتناء بنفسه وتلبية احتياجاته وصيانة حقوقه الإنسانية، العلاج حق إنساني، وعلينا أن لا نسمح لأي شخص أن يقف بيننا وبين حق من حقوقنا الإنسانية، حينها سنحيا حياة كريمة وحيوية وسنرى أنفسنا أكثر مسؤولية وشجاعة.
لأن ليس الكل قادر على تلقي العلاج اللازم، أو كما ذكرتي سابقا أن المشكلة قد تكون تحدي يتحاج إلى تدخل من جهات أكبر، نطمح أن يكون هذا الحوار مربع معلومات طبية ليساعد هذه الفئة التي لا حول لها ولا قوة، بشكل عام ما هي الأساليب التي قد تساعد في تفادي أي مشكلة نفسية؟
هناك الكثير لكن سأحاول تلخيصها على عدة محاور:
١- الحفاظ على التوازن قدر المستطاع، بمعنى أن يتوازن الشخص بين عمله ودراسته واللقاءات الاجتماعية والعلاقات المقربة وممارسة الهوايات والترفيه والتطوير الشخصي.
٢- تطوير القدرة على التفكير الصافي! بمعنى معرفة ماهي التشوهات المعرفية وكيف تؤثر وتتأثر بالحالة الانفعالية للشخص وتجارب حياته، علينا أن نعتني بكيفية ادراكنا للأمور من حولنا. (يمكن تعلم ذلك من العلاج المعرفي السلوكي والعلاج المبني على الاعقال/mentalization)
٣- تعلم مهارات تهدئة النفس وتنظيم الانفعالات واليقظة الذهنية، هناك الكثير من الكتب والمواد المنشورة وكذلك الاستعانة بمعالج نفسي عندما نجد أننا نفقد السيطرة على انفعالاتنا. (يمكن تعلم ذلك من العلاج الجدلي السلوكي والعلاج باليقظة الذهنية)
٤- تعلم مهارات توكيد الذات والتواصل الفعال بمعنى أن يتمكن الشخص من قول “لا” رفض ما يشكل عليه ضغط من الآخرين وان يتعلم كيفية الرفض بأسلوب واضح وغير عدواني او سلبي ان يتوازن حيث لا انسحاب ولا عدوان، لتجنب حدوث ضغط نفسي او التضحية بالنفس، وايضا للحفاظ على العلاقات. (يمكن تعلم ذلك من العلاج المعرفي السلوكي والعلاج البين شخصي)
٥- معرفة القيم الشخصية لدى الانسان نفسه، والتركيز عليها في أسلوب حياته حيث يبني نمط حياة قائم على قيمه الشخصية القيم الشخصية يمكن التعرف عليها أكثر من خلال العلاج بالقبول والالتزام (ACT) وسيلهمكم هذا العلاج عند القراءة فيه كيفية معرفة القيم والالتزام بها لعيش حياة ذات معنى.
٦- صياغة معنى شخصي لحياة الفرد حتى يتمكن من تحمل الشدائد، هناك مصادر كثيرة للمعنى، ربما هناك معنى شامل مصدره الدين أو الروحانيات، لكن المقصود هنا معنى شخصي لحياة الفرد يُصاغ بشكل شخصي يُعينه على العيش، يمكن قراءة كتاب بحث الانسان عن المعنى لفيكتور فرانكل سيلهم القارئ للتفكير في معاني شخصية لحياته.
في مسيرة الفرد العملية تواجهه قصص نجاح لشخصيات ملهمة في ظل ظروف وعقبات تعرقل الوصول للوجهة، خصوصا في مجالك يوجد العديد من التجارب المؤثرة عن نقلات نوعية وعلامات فارقة خطتها الأقلام عن المعالجين النفسي مع مرضاهم، هل يمكنّك مشاركة بعضا من هذه القصص الملهمة؟ وكيف استفاد الأشخاص المعنيون من العلاج النفسي وكيف أثر عليهم؟
هناك الكثير يمكن مشاركته باعتباره قصة نجاح، لكن بسبب مبدأ السرية في العلاج لن يسعني الاستفاضة، وسأختصر بحديث عام جدًا، أن أهم قصة نجاح عندما أرى كيف أصبح المراجع أكثر تعاطفًا مع نفسه وأكثر تفهمًا، وأنه بات يعامل نفسه باعتباره إنسان، حيث لم تعد عيوبه وأخطائه قضية كبرى بل بات ينظر لها في فلك انسانيته، وأصبح يتمتع بصفاء أكثر يمكنه السعي والعمل على أهدافه، وبات أكثر وعيًا بالحدود الشخصية وأكثر قدرة على التواصل الفعال والعناية بمشاعره ومشاعر غيره، أن ترى مراجعك أكثر مرونه وأقرب للنسخة التي يتمناها لنفسه، يا لها من قصة نجاح أنا قد أدمنتها!
نعم أن ترى التمكين يحدث امامك أن ترى مراجعك جاهزًا لعيش الحياة كما يحب، هذا نجاح ستدمن عليه.
ختاماً هل هناك أي شيء تريدين إضافته أو الإشارة له؟
قال عالم النفس الشهير اريك فروم قديمًا:
“الحب هو الحل العاقل والمُرضي الوحيد، لمعضلة الوجود الإنساني”
أتفق معه وأضيف أن الحب أكثر المواضيع ارتباطًا بالصحة النفسية والرفاه الانساني، عندما ينقص أو يغيب الحب أو يعتريه شيء من الخلل والتشوّه خلال نشأة الانسان سيعاني في صغره والكبر وسيترك أثر ما، كما أنه عندما يعتري الانسان اضطرابًا ما في أي فترة في حياته سيؤثر ذلك بدوره على قدرة الانسان على تلقي وتقديم الحب، أن ينعم بالحب الجيد وأن يقدمه، وهنا يكون دور العلاج النفسي حيث تعد تجربة العلاج بمثابة خبرة انسانية تصحيحية، يجد الانسان نفسه في سياق آمن ومتعاطف ومتفهم دون أحكام أو قسوة، يطوّق هذه التجربة حب علاجي حكيم، يعيد بناء ما فُقد، يتم تشييد أرضية تمكنه من الوقوف بثبات ومع مرور الوقت شيء فشيء تمكنه من إطلاق طاقات الحياة فيه، وتحقيق إمكانياته الإنسانية التي تم تقويضها بفعل المعاناة أو النقص، شيء فشيء سيبدأ في السير في مسارات الحب والعافية والنمو.
في نهاية هذا الحوار القيم تأكد عزيزي القارئ أن الصحة النفسية مهمة جدا كغيرها من أعضاء جسم الإنسان، بل قد تكون أول خطوة لعلاج الكثير من الأوجاع الجسدية، فالروح أساس الأنسان وسلامتها واطمئنانها هو حق مشروع وجب الوصول إليه.
لا تحزن لما أصابك ولا تقلق بشأن ما قد يصيبك.. ترا الله ميسرها!