مر ثلاث أسابيع على إجازتي ولم آرى فيها والدتي الغالية ولم أسمع صوتها حتى ومع كل يوم يمر كنت أزداد قلقا عليها وريبه من هذا الوضع الغير مطمئن فكلما تواصلت مع ” عمر ” كان يقول أمي لا تستطيع التحدث لأنها تعاني من اكتئاب حاد و أنها ليست متوازنة نسبيا . في الحقيقة لم أقوى على الانتظار أكثر و إجازتي لم يتبقى منها الكثير فطلبت من ” عمر ” أن أذهب لمصر لأبقى معها ما تبقى لي من أيام الإجازة الصيفية وافق دون تردد وعلى الفور استعديت للسفر و حجزت على أول رحلة لجمهورية مصر وفور وصولي توجهت حيث يقيمون ولم تصدق عيناي ما ترى . رأيت أمي شاحبة الوجه و عيناها غائرتان كئيبة ، نحيلة الجسم ، مغيبة العقل ، حتى أنها لم تتعرف علي في بادئ الأمر سقطت على قدميها باكية و أقبل كل مكان في جسمها راسها ، كفيها وأقدامها وهي لا تتحرك ولا تنطق بحرف واحد . بقيت طوال الليل بجوار جنتي أفكر في أمر واحد فقط هو أنني سوف أنسحب من الدراسة و أبقى لرعايتها وخدمتها وفي الصباح أبلغت ” عمر ” بقراري الذي عارضني فيه بشدة وقال : يا أختي الصغيرة لهذا السبب لم نخبرك بما أصاب الوالدة …. قاطعته قائلة كيف تريدني أن أذهب و أمي بهذه الحالة يا عمر أرجوك لا تطلب مني ما لا أقدر عليه ومن سيعتني بها ” سوزان ” ليست مسئوله عنها فرعايتها واجب علي وليست لغيري ، سكت قليلا ثم قال : ومستقبلك يا روعة ؟؟
أجبت : أمي هي مستقبلي يا عمر
قال ” عمر ” حينها : طيب لا تستعجلي في قرار الانسحاب يستحسن أن تؤجلي سنة دراسية واحدة و ابقي معها وبإذن الله سوف تتحسن حالتها وتطمئني عليها وإن حدث غير ذلك أوعدك سوف أسعى لتأخذيها معك إلى بريطانيا إذا سمحت الظروف و كانت في حال أفضل من هذا الحال .
ناسبني اقتراحه كثيرا ومن اليوم التالي بدأت بمراسلة الجامعة بخصوص تأجيل السنة الدراسية القادمة لم يكن الأمر سهل إلا عندما أرفقت بعض التقارير الطيبة حول حالة أمي الصحية ، وبعد أسبوعين من المراسلة وافقت إدارة الجامعة على التأجيل وكان هذا أسعد خبرا سمعته في تلك الفترة . لم تتحسن حالة أمي أبدا فاقترحت على ” عمر ” بالعودة إلى منزلها قد يكون هذا أفضل لها و أريح برؤية أولادها و أختيها إضافة إلى وجودها في البيت قد يرفع من معنوياتها كثيرا و ها أنا معها ولن أتركها وفعلا عدنا إلى ديارنا مع الغالية و انتقلت للسكن معها في غرفتها حتى أكون بجوارها دائما .
عدت الأيام و الشهور و أمي تذبل شيئا فشيء كوردة جف مائها ، لا تذكر الكثير من الأمور إلا شيء واحد ألا وهي الصلاة فقد كانت دائما ما تصلي الفروض في مواعيدها و السنن و صلاة الليل دون تذكير . في يوم لا أنساه أبدا بعد صلاة العصر وهي على سجادتها قالت : روعه أطلبي من أخوتك المجيء اليوم جميعهم لدي ما سأخبركم به ، نظرت إليها و الدموع تنهمر من عيناي .. أمي أخيرا تكلمتي ثم حضنتها وقلت سمعا يا أماه سوف أهاتفهم جميعهم ، وخلال ساعة من اتصالاتي لإخوتي الخمسة .
قالت أمي بعد حضور الجميع بصوت مبحوح يا عمر أنت أكبر إخوتك والمسؤول عن الأسرة بعدي أنا ووالدك رحمة الله عليه وسوف أقول لك وصيتي أمام إخوتك
في منزل جدك والد أبيكم يوجد كل ما جمعه والدك من مال في خزنه قديمة توجد في حجرة النوم تحت السرير و أيضا ستجد صندوق صغير فيه سرنا أنا ووالدكم ولن أقوى على الحديث عنه وستعرفونه إن أخذ الله أمانته … قاطعها ” عمر ” قائلا سوف تعيشين بإذن الله وتتحدثين بما أردت يا أماه .. رفعت أمي يدها تشير له بالسكوت و استرسلت قائلة مبلغ التركة كبير بعض الشيء و أما عن مزرعة جدكم و المتجر التابع لها فهي وقف لوجه الله تعالى للعائلة لا يستطيع أحد بيعهم أو التصرف بهم وبيت الجد يضل على حاله كما هو لان هذه رغبة أحمد الله يرحمه ، سكتت للحظة ثم قالت يا بنتي أسنديني أريد أن أتوضأ استعدادا لصلاة المغرب …. وحين وصولنا لباب الحمام سقطت أمي من بين يدي فصرخت أستغيث بإخواني لمساعدتي على حملها ارتبك وهرع الجميع الينا أحدهم اتصل بالإسعاف و أخر أسرع تجاهي لكن ” علي ” كان له راي أخر صرخ وقال هيا أحملوها ننقلها بالسيارة أسرع وفعلا أسرع ” عمر ” و ” سامي ” بحملها وأخذها إلى السيارة وضعاها في المقعدة الخلفية ووضعا رأسها على قدمي وركب ” عمر ” في المقعدة الأمامية بجوار ” على ” و انطلق علي بسرعة جنونية إلى أقرب مستشفى ، لحق بنا البقية بسيارة ” أسامة ” . وفي المستشفى أدخلوها لغرفة الطوارئ وبعدها إلى قسم العناية المركزة وبحكم تخصصي كنت أعلم أنها في لحظاتها الأخيرة لكن كنت أكذب ذلك فطريا و أدعوا لها بالشفاء .
بعد أربع أيام من بقاء أمي في المستشفى انتقلت إلى جوار ربها صباحا و فور إبلاغنا تجمعنا في رواق المستشفى نبكي ويحضن بعضنا البعض متأثرين بالحزن و صدمة الخبر الذي كان ثقيلا علينا ثم بدأنا بإجراء متطلبات الدفن و التجهيز لمراسم العزاء الذي سيقام في منزلها ، تجمع الأقارب و الأحباب لتوديع الغالية نقل الجثمان إلى مغسلة الأموات بالمسجد الذي بجوار منزلنا ليتم تجهيزها لمثواها الأخير فدخلت أنا واحدى خالاتي لتغسيلها وتكفينها بعدها دخل الرجال لحملها إلى المسجد ليصلى عليها بعد صلاة المغرب وبعد الدفن بدأ العزاء الذي استمر لثلاث أيام كما جرت العادة و الحزن لم يفارقنا جميعا فأمي لم تكن إنسانة عادية بل كانت كنسمة الربيع التي تنعش نفس كل من يتعرف عليها ..
مرت مدة ليست بالطويلة قرابة شهران على وفاة أمي وهذه المرة لم يكن ” عمر ” من بدأ بإقناعي بالعودة إلى جامعتي بل تولت هذه المهمة ” سوزان ” زوجته التي قالت : روعتي الصغيرة ليس بأيدينا أي شيء لفعله والحزن لن يرد الميت وسنة الحياه الاستمرارية مهما كانت الظروف صحيح مازال هناك وقت لاستئناف الدراسة لكن سوف نصاحبك جميعنا ( تقصد أسرتها ) فقد كانت فترة الإجازة الصيفية الرسمية في بلدنا وبعد قضاء هذه الفترة معك سوف نعود نحن وتبقين أنت فلم يتبقى لديك الكثير لتحصلي على الشهادة يا دكتورة فهذا ما أراده والديك . في الحقيقة لم أقتنع بكلامها أبدا فمازال الحزن يخيم علي كثيرا إلا أنها ألحت في الكلام على عدة أيام كما حاولن معي زوجات أخوتي الأخريات و أيضا أزواجهن وافقت على مضض بمواصلة الدراسة فقد كان يدور في ذهني وكان هذه الدراسة لعنة علي وعلى من حولي .
في بريطانيا طلبت من ” عمر ” بتغير مكان إقامتي لأنني أتذكر والداي وفعلا ساعدني بالبحث عن شقة أخرى مناسبة قريبة من المركز الإسلامي إلا أنها بعيدة عن الجامعة بعض الشيء . عرفت ” مريم ” صديقة المركز على أسرتي و أستمتعنا سويا خلال تواجدهم وكانت هذه المرة الأولى التي ألتقي مع ” مريم ” خارج نطاق المركز الإسلامي .
عاد ” عمر ” مع أسرته للبلاد و قبل أن يعود بيومين سألته عن ما إذا فتح الخزنة وهل عرف ما في ذلك الصندوق الذي تكلمت عنه الوالدة أم لا لكنه أجاب بأنه أجل الموضوع حتى يصبح بوضع أفضل ليقوى على تحمل صدمات جديدة فالفترة الماضية كانت صعبة عليه . انتهى الحوار إلى هذا الحد.
بشكل روتيني قضيت فترة الفصل الدراسي الأول الذي كنت أنتظر نهايته بفارغ الصبر حتى أستطيع زيارة البلاد و قضاء فترة الاجازة الإنتصافية بين إخوتي ، حجزت ولم أخبر أحدا حتى يتفاجؤون عند رؤيتي . في المطار عند وصولي بعد أن أدخل موظف الأمن بياناتي على الحاسب الالي أخبرني أن لدي تبليغ حضور لمحكمة الأحوال الشخصية وعلي الذهاب حتى لا أتعرض لمسألة قانونية بكل برود قلت له لا يا سيدي حتما هناك لبس أو تشابه أسماء و أظنك مخطئ ثم مددت يدي لأخذ جوازي ، مد يده و أعطاني جوازي ثم قال لا يا أنسة لست مخطئ عموما يمكن التحقق من المحكمة وقت المراجعة ونصيحتي لك لا تهملي الامر . لم أعطي كلامه أي نوع من الأهمية وجمعت أغراضي بلا مبالاه وتوجهت إلى الخارج استغليت سيارة أجرة وذهبت إلى منزلنا و أنا مليئة بالحب والشوق والفرح . استقبلتني ” سوزان ” عند وصولي بحفاوة ولكن الغريب أن ” عمر ” أظهر بعض دهشه وقال لماذا لم تخبرينا بقدومك على الأقل لو أتى من يأخذك من المطار فأجبت بدلع وكيف تكون مفاجئة ؟؟
دعى ” عمر ” الجميع لتناول طعام العشاء على شرفي في اليوم التالي من وصولي كما قال أن هناك أمر مهم يجب على الجميع سماعه يخص العائلة و بالفعل اجتمع الجميع على مائدة طعام كانت لذيذة فيها الكثير من الأطباق المحلية التي أفتقدها كثيرا ولمه جميلة تبادلنا الضحكات وقليلا من الذكريات الباكية و أخرى تعيد شوقنا لمن فقدنا وبعد الانتهاء من تناول الطعام دخلنا إلى مجلس الرجال و أغلق ” عمر ” الباب ثم جلس وقال جميعنا سمعنا وصية الوالدة قبل وفاتها حين قالت بأن هناك سر لن تقوى على البوح به إلى أنها خبته في صندوق صغير وعلينا معرفته بعد وفاتها و أيضا الخزنة التي فيها مبلغ مادي … قال ” أسامة ” نعم ، ثم أسترسل ” عمر ” قائلا قبل فترة ذهبت إلى بيت الجد بمفردي حتى أنفذ وصية الوالدة ، قاطعة طرق الباب ثم فتح و إذا ” بمالك ” أحضر صينية الشاي و بعض الفواكه وضع الصينية على الطاولة ثم استأذن بالخروج و أغلق الباب خلفه وبعد خروجه أكمل ” عمر ” ما وجدته في الخزنة كان سبع مليون أي لكل واحد منا مليون كما قسمها أبواي وهذا بناء على ورقة القسمة التي كتبها الدكتور أحمد رحمه الله أما عن الصندوق فموجوداته خطيرة فكرت بشأنها كثيرا ، سألت بعض المحاميين و رجال الدين .. قال ” أدهم ” باستغراب رجال دين ؟؟ و أيضا ” أسامة ” و ” خالد ” ثم قال ” سامي ” تحلو بالصبر أكمل يا عمر من فضلك .
وقف ” عمر ” و أحضر علبة متوسطة الحجم و جلس في مكانه و أخرج منها ظرف أبيض صغير و ملابس مواليد بلون أصفر مطرز عليها على الجانب الأيمن وردة بنفسجية بأوراق خضراء …..

يتبع ……
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شاركنا قصتك على البريد الإلكتروني الخاص بالصفحة
bdwnnqatfwasl@gmail.com




