خطب وأم المصلين في المسجد النبوي فضيلة الشيخ الدكتور صلاح بن محمد البدير .
وبعد أن حمد الله تعالى بدأ خطبته بقوله: أيها الحجاج والعمار والزوار قدمتم خير مقدم وغنمتم خير مغنم وطاب ممشاكم والرحمة تغشاكم وهنيئاً لكم زيارة البلاد الطاهرة، والبقاع الزاهرة والأرجاء الذكية، والمواطن الزاكية مكة المكرمة والمدينة المنورة البلدتين المقدستين المعظمتين اللتين تسعد بزيارتها الأرواح وتهنئ برؤيتها النفوس وترتاح وتغشى القلوب بالجوار فيها سيول الأفراح وفيوض الانشراح وينال العباد ببركتها المغانم والأرباح، قال صلى الله عليه وسلم: ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن خير ما رُكبت إليه الرواحل مسجدي هذا والبيت العتيق).
وبيّن: أيها الحجاج والعمار والزوار: إنكم في مواطن النفحات ومساقط الرحمات ومتنزل البركات ومواضع الخيرات، ومن أم البيت وأحرم بالحج فلم يرفث ولم يفسق ولم يخالط شيئاً من المآثم حتى انتهى من نسكه غفر له ما تقدم من ذنوبه وخطاياه، قال صلى الله عليه وسلم: (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كما ولدته أمه).
وأوضح فضيلته: أيها الحجاج والعمار والزوار: نزهوا الحرمين الشريفين وعظِّموا حرمتهما، وراعوا مكانتهما واحذروا ما يعكر صفو الشعائر والمشاعر وإياكم والجدال بالباطل وإياكم والتنازع والتخاصم والتقاطع والتشاجر والشقاق والافتراق ولا تجعلوا الحج مسرحاً للخلافات والمخاصمات والمشاحنات والعداوات ولا مكاناً للمهاترات والمشاتمات والهتافات والعصبيات والحزبيات قال جل وعز: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ)؛ أيها الحاج السالك الناسك: تفقَّه في المناسك قبل أن تتلبس بالإحرام ، وتقصد البيت الحرام واسأل العلماء عما أشكل عليك واحذر استفتاء الجاهلين وسؤال من لا يعرف بالعلم والفتوى، وكم من حاج شرع في أداء نسكه وهو لا يدرك أحكامه، ولا يحسن إتمامه، فترك ركناً أو أسقط شرطاً، أو أهمل فرضاً، أو ارتكب محظوراً أو أتى محذوراً وقد أمر الله تعالى الحجاج والعمار بإتمام النسك وإكماله فقال جل وعز: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ)؛ أي ائتوا بهما تامّين كاملين بمناسكهما وشرائطهما ابتغاء وجه الله تعالى من غير توان ولا نقصان، فإذا شرعتم في الحج فأتموه وإذا بدأتم النسك فأكملوه وإذا عملتم صالحاً فأتقنوه .
وأضاف: حجاج بيت الله الحرام وزوار مسجد سيد الأنام عليه أزكى صلاة وأوفى سلام: لقد أسست هذه البقاع المباركة على توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له قال جل وعز: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا)؛فالزموا السنن المسندات النيرات واحذروا البدع والمحدثات ولا تنحنوا لأموات، ولا ترجو شفاء من رفات ولا تتبركوا بالقبور ولا تستشفوا بها ولا ترموا الأطعمة والحبوب والنقود والسُبح والثياب عليها ولا تستغيثوا بالأموات ولا تسألوهم سد الفاقات وإغاثة اللهفات وارفعوا إلى الله وحده الحاجات والرغبات والدعوات واحذروا التشبه بأهل الدجل والخزعبلات والخرافات، قال تعالى: (ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡ لَهُ ٱلۡمُلۡكُۚ وَٱلَّذِينَ تَدۡعُونَ مِن دُونِهِۦ مَا يَمۡلِكُونَ مِن قِطۡمِيرٍ (13) إِن تَدۡعُوهُمۡ لَا يَسۡمَعُواْ دُعَآءَكُمۡ وَلَوۡ سَمِعُواْ مَا ٱسۡتَجَابُواْ لَكُمۡۖ وَيَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ يَكۡفُرُونَ بِشِرۡكِكُمۡۚ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثۡلُ خَبِيرٖ).
وبيّن فضيلته: أيها الحجاج والعمار والزوار: لا تتبركوا بجدار أو باب، ولا تتمسحوا بمنبر ولا محراب ولا تلتمسوا البركة من مغارة أو جبل أو صخرة أو أحجار فالبركة لا تلتمس من الجمادات، ويشرع استلام الحجر الأسود وتقبيله، ويشرع استلام الركن اليماني بلا تقبيل، وما عدا ذلك فلا يشرع استلامه ولا تقبيله، نستلم ما استلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونمسك عما أمسك عنه، ومن أحب أن يأتي الملتزم – وهو ما بين الحجر الأسود والباب – فيضع عليه صدره ووجهه وذراعيه وكفيه ويدعو ويسأل الله تعالى حاجته، فعل ذلك في غير مزاحمة ولا مدافعة ولا إيذاء لثبوت ذلك عن بعض الصحابة رضي الله عنهم.
وأكمل: معاشر الحجاج والعمار والزوار: ارحموا الضعفة والنساء والشيوخ والهرمين ولا تؤذوهم ولا تدفعوهم ولا تضايقوهم وافسحوا لهم يفسح الله لكم، وعليكم بالرفق والتمهل والترسل ولين الجانب والمسامحة وترك المزاحمة، وتجلببوا السكينة، واستشعروا الخشية، والزموا الوقار وأرشدوا الضال وساعدوا العاجز والمحتاج وأكثروا من التوبة والاستغفار، وأظهروا التذلل والانكسار، والندامة والافتقار ، والحاجة والاضطرار وتذكروا جلالة المكان، وشرف الزمان، تلقَّى الله دعاءكم بالإجابة،واستغفاركم بالرضا، وحجكم بالقبول، وجعل سعيكم مشكوراً، وذنبكم مغفوراً، وحجكم مبروراً.
واختتم فضيلته الخطبة بقوله: لقد حظي الحرمان الشريفان بفضل الله تعالى برعاية سامية وعناية ضافية وخدمة وافية من لدن خادم الحرمين الشريفين وولي عهده أيدهما الله تعالى فوجهت الجهود وجندت الجنود وحشدت الحشود لأجل أمن الحجيج وسلامتهم وصحتهم وراحتهم، ونالت مكة والمدينة من التعمير والتطوير ما ليس له في سابق الأزمان مثيل ولا نظير في ظل حكم رشيد ظاهر، وأمن وافر واستقرار باهر، وعدل سائر وخير زاخر، وقد اقتضت السياسة الشرعية والمصلحة المرعية تحديد عدد الحجاج كل عام، دفعاً لمفاسد الزحام، ومنعاً لحصول الفوضى ووقوع الاختلال والاضطراب في الحج، فلا حج إلا بتصريح، ومن لم يحصل على تصريح الحج من الجهات الرسمية فهو معذور في تأخير حجته حتى ينال التصريح، فيا من تخالفون النظام، وترتكبون الحرام، وتتجاوزون المواقيت بلا إحرام، أي حج تقصدون، وأي ثواب تريدون، وأي أجر تبتغون، فانتهوا عن هذه الأفعال الذميمة الوخيمة، وإياكم والتذرع بالذرائع الساقطة الواهية، وانظروا بعين العقل والتروي والبصيرة تعرفوا حكم هذا القرار وفوائده الجسيمة وعوائده العظيمة.