أحدثك هذه المرة عن صاحبي (فلان) : ينحدر من أسرة عرفت بالعلم و العمل و العطاء و الوفاء، شقّ طريقه الجامعي حتى انتهى به المطاف إلى وظيفة مرموقة و أموره الحياتيّة في ظاهرها تجري على ما يرام إلا أنّ نافذة ما لم تكن مغلقة بإحكام فتسللت منها خيوط العنكبوت ( و لكنها ليست كأي خيوط )، في بدايتها كانت خيوط رقيقة من القلق و الحيرة و الخوف من المستقبل و لكنّها تعاظمت يوما بعد آخر حتى تمكّنت من صاحبها إلى الدرجة التي ( سلبت منه نومه المريح و أفقدته الاستمتاع بمظاهر الحياة و قللت من مخالطته للناس و زدات من رغبته في العزلة و الانطواء )، و الأخطر من هذا كله أن هذه الآثار كادت أن تؤثر على وظيفته سلباً و ترفع من مستوى تفكيره الدائم بالموت .
بعد كل هذه الآثار: كنت أتوقع أن صاحبي كان مكابرا – كما هي عادة البعض – في الاستعانة بأهل التخصص و لكنه أخبرني ( لم أكن مكابرا بل كنت في متاهة و أنّ الأمور بعدما تدهورت كثيرا أيقنت أنه لا خلاص من شباك العنكبوت النفسية إلا من خلال الأخصائي النفسي الذي أخبرني بأن الذي كل الذي جرى و يجري و سيجري عليك هو عرض لمرض يسمى : الاكتئاب .
هنا توقف صاحبي برهة من الزمن و كان أمام لحظة تاريخية في حياته : إما أن يعترف بوجود المشكلة و يضعها على الطاولة أو يتجاهلها و يغرق في ظلماتها ! .
بالطبع ، بحكم ثقافته و قراءته و وعيه اختار الخيار الأول و كان لا بد أن يستعين بعد الله بأخصائي نفسي يتناول مشكلته بمهنية عالية ( متضمنة السرية تامة و القدرة على الاستماع الإيجابي ) و هنا ينقل صاحبي أن حل أزمته تضمن مجموعة من الخطوات : ( الاعتراف الذاتي بالمشكلة ، تشخيص الحالة من قبل المختص، و ضع خطة علاجية ، الانضباط الذاتي، المتابعة المستمرة ، العلاج الدوائي، تغيير الأمكنة و الممارسات الثقافية و الفنيّة و الرياضيّة و الإيمانيّة ).
و مما لفت نظري في خطة علاجه هو عدم إهمالها معالجة عقد الطفولة و الجانب المعرفي السلوكي ( الذي يناقش أسئلة جوهرية شكّلت الإجابة عليها خارطة دقيقة للحل )، و من بين هذه الأسئلة :
كيف تكون حياتي ذات قيمة و ذات معنى؟
كيف أرمم نفسي بعد الانكسار؟ .
كيف أملأ الفراغات الصغيرة في جدولي اليومي بحيث تبدد الفراغ الممل؟ .
و الآن حان الوقت لتسألوني : و ما هي أخبار صاحبك الآن ؟ .
حسنا سألتم و الحقيقة أنّه لولا البشارة التي وصلتني – و الاستئذان منه بتدوين التجربة – لما كتبت هذا المقال، و كنت كما كنتم حريص على تلقي الأخبار كما هي كي تكتمل فرحتي و يفرح و تفرحون و هنا يقول صاحبي:
بعد التزامي بخطة العلاج عادت جودة نومي إلى وضعها الطبيعي و تحسّن إقبالي على أنشطتي المفضّلة ( الرياضة و الجلوس مع الأصدقاء و ممارسة القراءة و الرسم بنسبة ٨٠ ٪ ) بعدما كنت أؤثر العزلة على اللقاء و المكوث على الجلوس مع الخلان و الأوفياء .
و عدت إلى عملي مؤديا واجبي تارة و مشاركا في برامج إضافية تارة أخرى الأمر الذي انعكس على تقييمي إلى أفضل حال و أخيرا أصبح صاحبي -بفضل الله -شغوفا بالتعلم الذاتي.
لقد خذلتك الأيام قليلاً يا صديقي و لكنك _ كم عهدناك _عدت مضيئا تشعل الشموع و تلعن الظلام.
و ختاما لا يسعني أن أقول إلا :
1- إنّ أقصر الطرق لحل المشكلة هو الاعتراف بها.
2- إنّ زيارتك للمتخصص أمر في غاية الضرورة ( طبيعي جدا أن يكونوا متفاوتين في درجة الاستماع إليك و القبول عندك فاختر من تجد ضالتك عنده ) .
3- تخلّص دائماً وأبدا من وهم المثاليات ( نحن بشر و نتعرض للأزمات فمنهم من تبنيه و منهم تدمره و المتوقع من الواعين أن يختاروا ما يبنيهم ).
4- لا تتوقع أبدا أن يتوفر علاجك على شكل وصفة سحرية ( هذا وهم) و الطبيعي أن خطة العلاج تتطلب وقتا و جهدا و صبرا .
همسة : صحتك الجسديّة قد تبدأ من صحتك النفسيّة أولاً .