التحرش ظاهرة اجتماعية خطيرة تنتهك حرية الأفراد وتترك أثرًا نفسيًا عميقًا على ضحاياه. يتجسد التحرش بأشكال متعددة، منها الجسدي واللفظي، مما يجعله تحديًا يهدد سلامة الأفراد والمجتمع بأسره. ورغم الجهود المبذولة لمكافحته، فإن نظرة المجتمع للضحايا ما زالت تشكل عقبة كبرى، حيث يواجهون غالبًا لومًا غير مبرر يعمّق جروحهم النفسية. هذا التناقض بين الحاجة إلى مواجهة التحرش ودعم المتضررين منه يدفعنا للتأمل بعمق في آثاره وسبل التصدي له على المستويين الفردي والجماعي.
دور الدعم الاجتماعي في الإبلاغ
يلعب الدعم الاجتماعي دورًا حاسمًا في تشجيع الضحايا على الإبلاغ عن حالات التحرش. وفقًا للعديد من المستشارين النفسيين، فإن الدعم الذي تقدمه العائلة والأصدقاء يمكن أن يؤثر بشكل إيجابي على قدرة الضحايا على مواجهة تجاربهم. تتلخص أبعاد هذا الدعم فيما يلي:
١- تعزيز الثقة بالنفس: توفر شبكة الدعم القوية شعورًا بالأمان، مما يساعد الضحايا على تجاوز مشاعر العزلة والخوف.
٢- تقديم المعلومات والإرشادات: الدعم من الأصدقاء والعائلة يمكن أن يساعد في توجيه الضحايا حول كيفية الإبلاغ عن الحوادث بطريقة آمنة وصحيحة.
٣- تخفيف الشعور بالعار: التحدث عن التجربة مع أشخاص موثوقين يمكن أن يساعد الضحايا على تقليل الشعور بالذنب والعار المرتبط بالتحرش.
التحديات التي تواجه الدعم الاجتماعي
على الرغم من أهمية الدعم الاجتماعي، إلا أن الضحايا يواجهون العديد من التحديات، منها:
١-وصمة العار: يُعاني الكثير من الضحايا من الخوف من ردود فعل المجتمع، مما يمنعهم من الإبلاغ عن تجاربهم.
٢-نقص الوعي: عدم الوعي بأهمية الإبلاغ والتبعات النفسية للتحرش يُقلل من فعالية الدعم الاجتماعي
قصص ضحايا التحرش :
في مقال “فتيات: هذه قصصنا الخفية مع التحرش” على موقع سيدتي، تروي الفتيات تجاربهن المؤلمة مع التحرش. إحدى القصص تتحدث عن فتاة تعرضت للتحرش أثناء صعودها الدرج في عمارتها. الشخص الغريب حاصرها في زاوية ضيقة وهددها، لكنها تمكنت من الهروب بفضل صراخها الذي جذب انتباه أخيها. على الرغم من إلقاء القبض على المعتدي، واجهت الفتاة صدمة من رد فعل عائلتها الذين كانوا يخشون الفضيحة أكثر من دعمها. هذه القصة تعكس التحديات النفسية والاجتماعية التي تواجهها الضحايا بسبب الثقافة المجتمعية المرتبطة بالعار والخوف من الفضيحة.
و في تقرير على موقع “الحرة”، كشفت شابة سورية عن تجربتها المؤلمة مع التحرش من قبل أستاذها في المدرسة. شاركت تفاصيل محاولتها طلب المساعدة من إدارة المدرسة، حيث شعرت بالإهمال، ما تركها محبطة ومعزولة. رغم الصعوبات، قررت الشابة مشاركة قصتها علنًا على وسائل الإعلام لرفع الوعي، فحققت تفاعلًا واسعًا وأثارت نقاشات حول الحاجة إلى دعم ضحايا التحرش ومحاسبة المتورطين لضمان سلامة الطلاب.
الاثار النفسيه و الاجتماعيه و المهنيه :
التحرش يؤثر بشكل كبير على الضحايا على المدى القصير والطويل، لكن الآثار النفسية الناتجة عنها تبقى من أكثر الجوانب التي تحتاج إلى تسليط الضوء.
منذ لحظة حدوث التحرش، يشعر الضحية بصدمة نفسية قد تكون شديدة في البداية. تحدثنا مع عدد من الأفراد الذين مروا بتجارب تحرش، وأجمعوا على أن أول شعور انتابهم هو الارتباك والذهول. في كثير من الحالات، يعجز الضحايا عن التصرف فورًا أو الرد على الفعل العدواني بسبب المفاجأة أو الخوف. بعضهم وصف اللحظة بأنها “شعور بالشلل” حيث لم يعرفوا كيفية التصرف أو طلب المساعدة.
واحدة من أبرز الآثار الفورية هي الشعور بالذنب، وهو ما يعاني منه العديد من الضحايا في تلك اللحظات. يشعر البعض منهم وكأنهم كانوا السبب في حدوث الحادث، خاصة في حالات التحرش اللفظي أو النظرات المتطفلة. هذا الشعور قد يكون نتيجة لأزمة في تقدير الذات، حيث يعزو الضحية ما حدث إلى تصرفاته أو مظهره الشخصي، مما يعمق شعوره بالعار.
ما يجعل التحرش أكثر إيلامًا من مجرد تجربة عابرة هو تأثيره الطويل الأمد على الصحة النفسية للضحية. تبدأ هذه التأثيرات في الظهور بشكل واضح بعد مرور بعض الوقت على الحادث. يُظهر العديد من الدراسات النفسية أن القلق المزمن هو أحد أكثر الآثار التي يعاني منها ضحايا التحرش على المدى الطويل. القلق قد يظهر على شكل خوف من حدوث حوادث مشابهة، أو تجنب أماكن معينة يرتبط فيها الضحية بذكريات مؤلمة.
القلق قد يتفاقم ليؤدي إلى نوبات هلع في بعض الحالات، حيث يصبح الضحية غير قادر على التعامل مع مواقف معينة دون أن يواجه شعورًا مفاجئًا بالخوف أو التوتر. يقول بعض الضحايا إنهم أصبحوا يلتفتون حولهم بشكل دائم بحثًا عن أي تهديد محتمل، مما يؤثر على قدرتهم على التركيز أو الاستمتاع بحياتهم اليومية.
إضافة إلى القلق، يعاني بعض الضحايا من الاكتئاب الحاد. فقد أظهرت العديد من الدراسات النفسية أن تعرض الأفراد للتحرش يعرضهم لخطر الإصابة بالاكتئاب، وخاصة إذا لم يتلقوا الدعم النفسي أو لم يتمكنوا من الإبلاغ عن الحادث. الاكتئاب قد يتجلى في مشاعر الحزن العميق، فقدان الرغبة في الأنشطة اليومية، والشعور بالعزلة الاجتماعية. في بعض الحالات، قد يتطور هذا الاكتئاب إلى أفكار انتحارية إذا شعر الضحية بالعجز أو عدم وجود أمل في تحسين الوضع.
من الآثار النفسية المهمة التي تظهر لدى ضحايا التحرش هي الانعزال الاجتماعي. بعد تعرضهم للتحرش، يجد العديد من الضحايا أنفسهم يعانون من صعوبة في التفاعل مع الآخرين. بعضهم يصبح أكثر حساسية تجاه التعاملات اليومية، مما يؤدي إلى فقدان الثقة في الآخرين بشكل عام. يشعر الضحايا في كثير من الأحيان أن الآخرين قد لا يفهمون مشاعرهم أو قد يلومونهم على ما حدث، مما يزيد من رغبتهم في الانسحاب عن دائرة الأصدقاء أو العائلة.
هذا التأثير على العلاقات قد يمتد إلى العلاقات العاطفية. في بعض الحالات، يعاني الضحية من صعوبة في بناء أو الحفاظ على علاقات عاطفية سليمة بسبب فقدان الثقة بالنفس وبالآخرين. الضحايا الذين تعرضوا للتحرش قد يصبحون أكثر تحفظًا أو مترددين في الانفتاح على الآخرين، خشية تعرضهم للضرر مرة أخرى. كما أن بعضهم قد يشعر بالتردد في الوثوق بالأشخاص المقربين، مما يؤثر على قدرتهم على بناء علاقات صحية.
من الآثار النفسية الأخرى التي قد يعاني منها ضحايا التحرش هي التأثيرات على الأداء المهني أو الأكاديمي. قد يجد الضحايا أنفسهم غير قادرين على التركيز في العمل أو الدراسة بسبب الانشغال الذهني بالألم النفسي الناتج عن الحادث. يمكن أن يتسبب التحرش في تدني الثقة بالنفس، مما يؤثر على قدرة الضحية على التفاعل بشكل إيجابي مع زملائه في العمل أو دراساته الأكاديمية. في حالات معينة، قد يؤدي ذلك إلى التراجع في الأداء أو الشعور بالإرهاق الذهني، مما يجعل الضحية غير قادر على الوفاء بمسؤولياته اليومية.
علاوة على ذلك، قد يواجه بعض الضحايا صعوبة في التكيف مع بيئات العمل أو الدراسة التي تحتوي على عناصر قد تذكرهم بالحادث، سواء من حيث الأشخاص أو الأماكن. في حالات معينة، قد يكون لدى الضحية صعوبة في العودة إلى العمل أو الدراسة في نفس المكان الذي شهد فيه الحادث.
جهود المملكة العربية السعودية في مكافحة التحرش ودعم الضحايا
في السنوات الأخيرة، اتخذت المملكة العربية السعودية خطوات ملموسة لمكافحة هذه الظاهرة، من خلال تشريعات قانونية ومبادرات اجتماعية تهدف إلى حماية الضحايا وتعزيز الوعي.
التشريعات القانونية
نظام مكافحة التحرش
في عام 2018، أصدرت المملكة نظام مكافحة التحرش، الذي يهدف إلى حماية المجتمع من هذه الظاهرة. يتضمن هذا النظام:
– تعريف التحرش: يشمل أي سلوك يهدف إلى إثارة الرغبات الجنسية أو الإساءة، سواء كان ذلك لفظياً أو جسدياً أو عبر وسائل التواصل.
– عقوبات صارمة: ينص النظام على عقوبات تتراوح بين الغرامات والسجن، مما يعكس جدية الحكومة في التصدي لهذه الجريمة.
توفير الحماية للضحايا: يضمن النظام عدم تعرض الضحايا لأي أذى اجتماعي أو قانوني نتيجة للإبلاغ عن التحرش.
الدعم الاجتماعي والنفسي
مراكز الدعم
أنشأت المملكة مراكز متخصصة لتقديم الدعم للضحايا، تشمل:
خطوط الدعم الهاتفية: توفر المساعدة العاجلة للضحايا وتوجيههم إلى الموارد اللازمة.
استشارات قانونية ونفسية: تقدم المراكز استشارات مجانية لمساعدة الضحايا على تجاوز آثار التحرش.
الحملات التوعوية
تطلق الحكومة ومؤسسات المجتمع المدني حملات توعوية تهدف إلى:
رفع الوعي: نشر معلومات حول كيفية التعرف على التحرش وطرق الإبلاغ عنه.
تغيير السلوكيات: تعزيز ثقافة الاحترام والمساواة بين الجنسين من خلال ورش العمل والندوات.
التعاون مع المؤسسات
الشراكات مع المنظمات غير الحكومية
تعمل الحكومة بالتعاون مع منظمات المجتمع المدني لتعزيز جهود مكافحة التحرش، من خلال:
-المشاريع المشتركة: تنفيذ برامج توعوية وورش عمل تستهدف الشباب والمجتمع.
تبادل الخبرات: الاستفادة من التجارب العالمية في معالجة قضايا التحرش ودعم الضحايا.
التوصيات و التوعيه
في العديد من المجتمعات، تظل ظاهرة التحرش موضوعًا حساسًا يعاني من نقص الوعي الكافي. كثير من الأفراد لا يدركون أن التحرش لا يقتصر على الأفعال الجسدية فحسب، بل يشمل أيضًا الألفاظ والإيحاءات غير اللائقة التي تمس كرامة الشخص. في هذا السياق، من الضروري أن تقوم المؤسسات التعليمية والإعلامية بتكثيف حملات التوعية التي تشرح بوضوح ماهية التحرش بجميع أشكاله.
كما يشير العديد من الخبراء إلى أهمية تعزيز ثقافة الاحترام المتبادل بين الجنسين. من خلال البرامج التوعوية، يمكن تعليم الأفراد ضرورة احترام الحدود الشخصية، مما يساهم في تقليل الحوادث التي قد تنشأ نتيجة لعدم الفهم أو التقدير الكافي لحقوق الآخرين. في هذا السياق، يشدد البعض على ضرورة إدراج مفاهيم المساواة والاحترام في المناهج الدراسية منذ سن مبكرة، لتكوين جيل واعٍ بحقوقه وحقوق الآخرين.
إضافة إلى ذلك، من الضروري أن يتعلم الأفراد كيفية التعامل مع الحالات التي قد يتعرضون فيها للتحرش أو يكونون شهودًا على مثل هذه الحوادث. تشير بعض الدراسات إلى أن الكثير من الأشخاص الذين يتعرضون للتحرش يترددون في اتخاذ خطوات ملموسة لمواجهة الوضع، إما بسبب الخوف من العواقب أو لعدم معرفتهم بكيفية التصرف. هنا يأتي دور المجتمع في تشجيع أفرادهم على التحدث وطلب المساعدة عند الحاجة.
أظهرت العديد من المقابلات مع الضحايا أن الصمت يعد العائق الأكبر الذي يمنع الكثيرين من الإبلاغ عن حالات التحرش. معظم الضحايا يشعرون بالخجل أو العار، مما يدفعهم إلى عدم التصرف حيال ما حدث. لكن الخبراء يؤكدون أن الخطوة الأولى التي يجب على الضحية اتخاذها هي التحدث عن الحادث. عندما تُشارك الضحية تجربتها، سواء مع شخص مقرب أو مع متخصص، يساعد ذلك في تخفيف العبء النفسي الذي يترتب على تلك التجربة.
من جهة أخرى، يُوصى بشدة بأن يتوجه الضحايا إلى مختصين نفسيين لمساعدتهم في معالجة الآثار النفسية التي قد تنشأ عن الحادث. التحرش قد يسبب مشاعر من القلق، الاكتئاب، وفقدان الثقة بالنفس، وبالتالي فإن الدعم النفسي يعد جزءًا أساسيًا من عملية التعافي.
أيضًا، من الضروري أن يتعلم الضحايا كيفية الإبلاغ عن الحادث. في بعض الحالات، قد يتردد الضحايا في التوجه إلى السلطات بسبب عدم المعرفة بالإجراءات أو الخوف من تجاهل البلاغات. ومع ذلك، يجب أن يعلم الجميع أن تقديم بلاغ لدى الجهات المختصة يُعد خطوة حاسمة لحماية أنفسهم ومنع تكرار الحوادث.
الخاتمه :
تشكِّل الصدمة جزءًا من حياتنا، وتحفر عميقًا في جسدنا الذي يتذكّرها جيّدًا، ويُكوِّن مشاعر موازية لها. ويُعدّ التحرّش كأكثر تجربة إنسانيّة مدمِّرة للضحيّة وحياتها، هي رحلة طويلة من المعاناة النفسيّة، والأخلاقيّة، والعاطفيّة، والمادّيّة التي تؤثِّر في جميع جوانب الحياة.
هي جريمة غالبًا ما تكون “مثاليّة”، وتُعطِّل نُطق اللسان، وتُفعِّل لُغة الجسد والانفعالات، والكلمات ليست سوى ذكريات ماضٍ عنيف وأليم. والضَّحايا، الذين كانوا في مُعظمهم أطفالًا، أو كانوا في مرحلة الطفولة، يعيشون حالة من فقدان الذاكرة “المَرَضِيَّة”.
التي تنتج عن الصَّدمة، والتي تمنعهم من إقامة الصِّلة بين اضطرابهم الحاليّ، وصعوبة تكيُّفهم الحياتيّ، وما عانوا منه أطفالاً.
المأساة في عالمنا اليوم هي عندما يُعرف مرتكب الجريمة، ونجد المجتمع غير راغب في رؤية، أو سماع، أو إدانة هذه الحقائق وما يجعلها تستمرُّ في الانتشار، والتدمير، لعلَّ الضحيّة لا تموت في الحال، لكنَّها تحترق ببطء.
هو ذا السبَّب في أنَّه من الأهمِّيّة بمكان أن تبدأ رحلة حقيقيّة لإصلاح هذا الأمر، وأن يتمّ تدريب عدد كبير من المهنيِّين الصِّحيّين، والنفسيّين على الرِّعاية الدقيقة والخاصِّة. ومن المهمِّ أيضًا ضمان مساعدة ضحايا التحرّش في أقرب وقت ممكن، وتقديم بروتوكولات وقاية، وعلاج، وحماية فعَّالة، ومحدودة زمنيًّا.
نعم، يُمكن أن نولد مُجدَّدًا من جريمة التحرّش ، ويُمكن أن نشفى من جروحها، وأن نُعيد الرُّوح الإبداعيّة الجميلة، والانطلاقة الحياتيّة الإيجابيّة، ونرمِّم بذلك “الأجنحة المُتكسِّرة” لدى الضحيّة.