
في زمنٍ كثرت فيه الوجوه وقلّت فيه المواقف، تبدو هذه العبارة الخالدة: “ما أكثر الأصحاب حين تعدّهم، ولكنهم في النائبات قليل”، وكأنها صدى لواقع نعيشه يوميًا. تراك تحاط بالعشرات، بل المئات، ممن يُسمّون “أصحابًا” و”أصدقاء”، يحيطون بك في أوقات الفرح، يشاركونك الضحكة والمناسبات، لكن حين تضيق بك الدنيا، وينزل البلاء، لا تجد منهم إلا القليل… أو لا أحد.
ليست الصداقة بكثرة الأسماء في الهاتف، ولا بعدد المتابعين على وسائل التواصل، بل بالمواقف. فالصديق الحقيقي لا يُقاس بالكم، بل بالكيف. هو من يبقى حين يرحل الجميع، من يسمع دون أن تُنادي، ويقف إلى جوارك دون أن تطلب.
في أوقات الشدة، تنكشف المعادن، ويظهر الصادق من المتصنع. الصديق الصادق لا يسألك “ماذا حدث؟” بل يقول “أنا معك”، لا يتردد في التضحية، ولا يتلكأ في الحضور، ولا يخذلك حين تحتاجه.
عجيب أمر الدنيا، تُريك الزيف في أبهى حلله، وتخدعك بالابتسامات، لكن المواقف وحدها كاشفة. فقد تمرض، فلا يسأل عنك أحد. تُصاب بمصيبة، فلا يعزّيك إلا الغريب. تُظلم، فلا يدافع عنك من حسبته أخًا.
وإني إذ أكتب هذه الكلمات، لا أنسى صديقين كانا من خيرة من عرفت: بكر إبراهيم (المتين)، وقاسم كرامه(أبو محمدزين) – رحمهما الله رحمة واسعة. كانا في حياتهما مثالًا للوفاء والمروءة، أحبابًا للقلوب، أصحابًا للعشرة الطيبة، لكن كم من الأصحاب الذين لازموهم في الدنيا، تفكروا فيهم اليوم؟ كم منهم دعا لهما بدعوة صادقة تضيء ظلم القبر؟!
الموت يختبر الصداقة كما تختبرها الحياة. فإن كنت قد عرفتهم في الحياة، فلا تنساهم بعد الوفاة. فالدعاء للأموات حق ووفاء، بل هو الصلة الباقية بعد انقطاع الأسباب.
ليس هذا دعوة للتشاؤم، بل دعوة للوعي. ليكن اختيارنا للأصحاب دقيقًا. لنتعلم من التجارب، ونُميّز بين من يحبنا لذاتنا، ومن يحبنا لمصالحه. ولنكن نحن أيضًا من ذلك القليل الذي يُذكر في الشدة، لا من الذين يُحسبون في الرخاء ويغيبون في البلاء.
وأخيرًا، يبقى الصديق الحقيقي عملة نادرة… لا يُقاس بعدد السنين، بل بثباته وقت المحن. فابحث عنه، واحرص عليه، وكن له كما تحب أن يكون لك. واذكر أحبابك الراحلين، بدعوة صادقة، فلعلها تكون نورًا لهم، ووفاءً تبقى به ذكراهم حيّة في القلوب.
وفي هذه الأيام الفضيلة، نسأل الله أن يُنزل رحماته الواسعة على بكر إبراهيم وقاسم كرامه، وعلى جميع أموات المسلمين ، وأن يجعل قبريهما روضتين من رياض الجنة، ويجزيهما عن صداقتهما وعشرتهما خير الجزاء، وأن يجمعنا بهم في الفردوس الأعلى مع من نحب.