التقيت بعضو مجلس إدارة الاتحاد العربي لألعاب القوى، (السوداني) المعز عباس، على هامش مشاركتنا في البطولة العربية الحادية عشرة للناشئين والناشئات في الجمهورية التونسية في شهر أغسطس الجاري . ومنذ اللحظة الأولى شعرت بالقرب منه وكأن قول المصطفى ﷺ يتحقق ” الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف ” ، فقد وجدت نفسي أمام روح شفافة صادقة.

سألته عن أخبار السودان، فتنهد قائلاً ” الحمد لله على كل حال”، عندها أدركت حجم المعاناة التي تركت الحرب بصماتها على قلبه وروحه.
سألته أين كان أثناء الحرب، فأجاب بصوت يملؤه الألم: “كنت على ترابها وتحت سمائها، عشت أيامًا عصيبة لن أنساها ما حييت. بعد أن رحّلت أسرتي إلى الخارج بقيت وحيدًا، ثم تعرضت للاعتقال من قوات الدعم السريع المتمردة، وأودعت في بدروم مظلم تحت الأرض “

هناك، كما يروي، كان المعتقلون بالعشرات في حيز ضيق، لا يعرفون ليلًا من نهار. الطعام شحيح، وأحيانًا ينقطع تمامًا، ودورات المياه غائبة، فلا يجدون سوى أوانٍ بدائية لقضاء الحاجة في مشهد مهين للإنسانية. ورغم كل شيء، لم يتركوا الصلاة، كانوا يتيممون على الجدران، يدعون الله ويستسلمون لقضائه. كثيرون لم يحتملوا، خاصة أصحاب الأمراض المزمنة، فمات بعضهم بالإهمال أو بانتهاء الأدوية، ومنهم من نقل إلى أدوار أخرى كانت أقل سوءًا.
يضيف (المعز) ” كنا نعيش كل يوم وكأننا نستعد للموت، نكثر الدعاء والتضرع، ونطلب حسن الخاتمة. الرياضة بعد توفيق الله كانت سببًا في قربي من الجميع، وكانت المنظمات الرياضية تطالب بإطلاق سراحي”
يحكي والالم يملأ عينيه عن مأساة أحد المعتقلين الذي شهد مقتل والدته أمام عينيه. يقول : ” ما أصابني أصاب كل الشعب السوداني من استشهد، ومن اعتقل، ومن اغتُصب، ومن شُرد. أما أنا، فكنت من المحظوظين الذين كتب الله لهم عمرًا جديدًا، بينما مات كثيرون داخل الحبس”
غادرت ذلك اللقاء وقلبي مثقل بالألم، لكنه ألم ممزوج بالفخر لصبره وصموده وإيمانه.
قصته ملهمة ولم تكن مجرد حكاية شخصية، بل مرآة لمعاناة وطن بأكمله، وطن يتألم لكنه لا ينكسر. خرجت من حديثه أكثر يقينًا بقول النبي ﷺ : “الأرواح جنود مجندة” فقد وجدت في (المعز عباس) مثالًا لروح مؤمنة صابرة، ودليلًا على أن السودان، مهما طال ليل المحنة، سيعود أقوى.

واليوم، يواصل (المعز) خدمة وطنه وأمته عبر الرياضة، رئيسًا للاتحاد السوداني لألعاب القوى، وعضوًا في مجلس إدارة الاتحاد العربي، وهذا شاهداً على قوة الإنسان السوداني وجسارة الرياضي. لقد علمتنا الرياضة الصبر، وفتحت أمامنا أبواب الأمل، وبفضل الله ثم علاقته بالرياضة تمكن من تجاوز المحنة بمنحة، ليكون نموذجًا حيًا على قدرة الإنسان على الصمود والنهوض مهما كانت الصعاب.





