وجه معالي الشيخ أ.د عبدالرحمن السديس في اليوم العالمي للغة العربية كلمة للمسلمين فحواها :
”إِنَّ مِنَ الوَفَاءِ لِلْعَرَبِيَّةِ أَنْ نُذَكِّرَ بِهَا فِي يَوْمِهَا العَالَمِيِّ لَا لِنْحِيِيَ أَثَرًا تالِدًا، بَلْ لِتَبْقَى لُغَةَ المُسْتَقْبَلِ، مَا دَامَتْ مُتَّصِلَةً بِالوَحْيِ وَالحَرَمَيْنِ، حَامِلَةً لِرِسَالَةِ الإِنْسَانِ للإِنْسَان”.
الحَمْدُ للهِ الَّذِي شَرَّفَ العَرَبِيَّةَ بِالوَحْيِ المُبِينِ، وَاصْطَفَاهَا وِعَاءً لِخِطَابِهِ المَتِينِ، وَجَعَلَهَا لِسَانَ الشَّرْعِ، وإقْلِيدَ الفَهْمِ، وَزِنَةَ البَيَانِ.
وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ؛ أَفْصَحِ مَنْ نَطَقَ بِكُلِّ حَرْفٍ مِنْ حُرُوفِ العَرَبِيَّةِ، وَأَبْيَنِ مَنْ خَاطَبَ الأَفْئِدَةَ وَالعُقُولَ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّين، أَمَّا بَعْدُ،
فَإِنَّ لِلْعَرَبِيَّةِ يَوْمًا تُسْتَدْعَى فِيهِ مِنْ أَكْنَافِ المَجْدِ، وَتُسْتَنْهَضُ فِيهِ مِنْ خَزَائِنِ التَّارِيخِ، لَا لِيُثْنَى عَلَيْهَا ثَنَاءُ العَاجِزِينَ، وَلَا لِتُبْكَى بُكَاءَ الضَّعَفَةِ المَغْلُوبِينَ، وَلَكِنْ لِتُعْرَضَ عَلَى عُقُولِ النَّاسِ عَرْضَ الحَيِّ البَاقِي، النَّابِضِ بِالحَيَوَاتِ المُمتَدَّةِ، المَانِحِ الأُمَمَ أَسْبَابَ الخُلُودِ.
وَإِذَا ذُكِرَتِ العَرَبِيَّةُ، فَإِنَّ أَوَّلَ مَا يَلُوحُ فِي الأَذْهَانِ، وَيُنْعِشُ مَكَامِنَ الجَنَانِ: مَهْوَى أَفْئِدَةِ البَيَانِ، وَمَهْبِطُ الوَحْيِ، وَمُنْطَلَقُ الرِّسَالَةِ: الحَرَمَانِ الشَّرِيفَانِ؛ مَكَّةُ المُكَرَّمَةَ، حَيْثُ انْبَثَقَ نُورُ: «اقْرَأْ»، وَالمَدِينَةَ المُنَوَّرَةَ، إذ تَكَامَلَ خِطَابُ الحَقِّ، وَاسْتَوَى البَيَانُ عَلَى سُوقِهِ، وَتَمَّ نُورُ العَرَبِيَّةِ وَالدِّينِ.
اللهُ كَرَّمَ بِالبَيانِ عِصابَةً في العالَمينَ عَزيزَةَ الميلادِ.
حَقُّ العَشيرَةِ في نُبوغِكَ أَوَّلٌ فَانْظُر لَعَلَّكَ بِالعَشيرَةِ بادي.
لَم يَكفِهِم شَطرُ النُبوغِ فَزِدْهُمُ إِن كُنتَ بِالشَّطْرَينِ غَيرَ جَوادِ.
أَو دَع لِسانَكَ وَاللُغاتِ فَرُبَّما غَنّى الأَصيلُ بِمَنطِقِ الأَجدادِ.
إِنَّ الَّذي مَلَأَ اللُغاتِ مَحاسِنًا جَعَلَ الجَمالَ وَسِرَّهُ في الضَّادِ.
العَرَبِيَّةُ: لِسَانُ المِلَّةِ لَا لُغَةُ القِدَمِ.
لَمْ تَكُنِ العَرَبِيَّةُ يَوْمًا اخْتِيَارًا هَامِشِيًّا فِي مَسِيرِ الزَّمَنِ، وَلَا لِسَانًا صَادَفَ حَمْلَ رِسَالَةٍ مِنَ الرِّسَالَاتِ فَحَسْبُ؛ بَلْ كَانَتْ لُغَةً أُعِدَّتْ إِعْدَادًا، وَصُقِلَتْ أَدَاةً، فَارْتَقَتْ نِظَامًا وَقَانُونًا، حَتَّى صَارَتْ أَقْدَرَ اللُّغَاتِ عَلَى حَمْلِ مَعَانِي السَّمَاءِ مِنْ دُونِ أَنْ تَفِيضَ أَوْ تَغِيضَ.
فكَلِمَاتُها هِيَ «الَّتِي نَزَلَ عَلَى وَفْقِهَا الكِتَابُ، ووَرَدَتْ بِهَا السُّنَنُ والآدَابُ، وهِيَ إلى عِلْمِ الشَّرَيعَةِ أَبْلَغُ الأَسْبَابِ»، وعِلْمُ العربيَّةِ «عِلْمٌ وَرَدَتْ بالنَّدْبِ إلَيْهِ السُّنَنُ والأَخْبَارُ، وتَظَاهَرَتْ بالثَّنَاءِ عَلَيْهِ مُتَوَاتِرَاتُ الآثَارِ، وأَجْمَعَ عَلَى فَضْلِه هُدَاةُ السَّلَفِ وأَئِمَّتُهُمْ، وأَرْدَفَهُمْ بتَفْضِيلِهِ سَرَاةُ الخَلَفِ وقَادَتُهُمْ، حَتَّى حَصَلَ بشَرَفِهِ العِلْمُ ضَرُورِيًّا، وثَبَتَ اليَقينُ بجَمَالِهِ حِسِّيًّا وشَرْعِيًّا، وعَقْلِيًّا ونَقْلِيًّا».
فَفِي الحَرَمَيْنِ: شَرُفَتِ العَرَبِيَّةُ بأَنْ كَانَتْ لِسَانَ القارِئِ، ونَجْوَى المُصْلِّي، وَصَوْتَ المُؤَذِّنِ، وَإِقْبَالَ الدَّاعِي، وَرُوحَ الفَقِيهِ، وَمَعْدِنَ المُفَسِّرِ، وَعَقْلَ الأُصُولِيِّ.
وَمِنْ مَكَّةَ وَالمَدِينَةِ انْطَلَقَتِ العَرَبِيَّةُ لِتَكُونَ لُغَةَ أُمَّةٍ مُخْتَارَةٍ، ثُمَّ لُغَةَ حَضَارَةٍ مُمْتَدَّةٍ، ثُمَّ لُغَةً إِنْسَانِيَّةً تَمْلَأُ أَرْجَاءَ الدُّنْيَا مَشْرِقًا وَمَغْرِبًا.
إِنَّهُ مَا مِنْ كَلِمَةٍ تُلْقَى فِي المَسْجِدِ الحَرَامِ، ولَا آيَةٍ تُتْلَى فِي المَسْجِدِ النَّبَوِيِّ، إِلَّا وَهِيَ شَوَاهِدُ صِدْقٍ عَلَى أَنَّ العَرَبِيَّةَ لَمْ تُحْفَظْ بِقَوَانِينِ المَجَامِعِ وَحْدَهَا، بَلْ حُفِظَتْ أَوَّلًا بِحِفْظِ الدِّينِ، فَكَانَ التَّعَبُّدُ بِهَا، لِتَغْدُوَ لُغَةَ الصَّلَاةِ، وَالذِّكْرِ، وَقِرَاءَةِ القُرْآنِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ.
الحَرَمَانِ: لَبِنَةُ العَرَبِيَّةِ الأُولَى، ومَوْرِدُ صِنَاعَةِ اللُّغَوِيّ.
لَقَدْ كَانَ الحَرَمَانِ الشَّرِيفَانِ عَبْرَ الحِقَبِ المُتَطَاوِلَةِ مَدْرَسَتَيْنِ مُشْرَعَتَيِ الأَبْوَابِ لِكُلِّ خِطَابٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ، فَفِي جَنَبَاتِهِمَا لَقِنَ الأَعْجَمِيُّ سِرَّ الضَّادِ، وَدَرِبَ الفَقِيهُ عَلَى الدَّقَائِقِ، وَجَرَى لِسَانُ الخَطِيبِ، وَعَلَا مَنْطِقُ الكَاتِبِ، وَتَكَامَلَ ذَوْقُهُ، وَنَضِجَ فَهْمُهُ.
وَمِنْ حِلَقِ العِلْمِ فِي الحَرَمِ المَكِّيِّ، إِلَى مَجَالِسِ الحَدِيثِ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، تَشَكَّلَتِ العَرَبِيَّةُ لُغَةً نَابِضَةً بِالحَيَاةِ، حَتَّى صَارَتْ دُولَةً بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالكَبِيرِ، وَالعَظِيمِ وَالحَقِيرِ، وَالأَمِيرِ وَالوَزِيرِ، لُغَةَ فَهْمٍ، وَإِبَانَةٍ، وَمِرَاسٍ، لَمْ تُقَيَّدْ فِي النُّصُوصِ، وَلَمْ تُعَطَّلْ فِي الدَّوَاوِينِ، بَلْ نَمَتْ فِي الشَّعَائِرِ، وَتَنَفَّسَتْ أَريجَ العِبَادَاتِ، وَسَرَتْ فِي حَيَاةِ المُسْلِمِينَ اليَوْمِيَّةِ.
العَرَبِيَّةُ: هُوِيَّةُ الحَرَمَيْنِ وَلِسَانُ عَالَمِيَّتِهِمَا.
وَمَعَ أَنَّ الحَرَمَيْنِ يَجْتَمِعُ فِيهِمَا النَّاسُ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، وَتَخْتَلِطُ فِيهِمَا الأَلْسُنُ، وَتَتَنَوَّعُ الأَلْوَانُ وَالأَعْرَاقُ وَالطِّبَاعُ بِتَنَوُّعِ البُلْدَانِ، إلَّا أَنَّ العَرَبِيَّةَ ظَلَّتِ الجَامِعَ الأَعْلَى، وَاللِّسَانَ الَّذِي يُذِيبُ كُلَّ اخْتِلَافٍ مِنْ دُونِ أَنْ يُلْغِيَهُ.
هِيَ لُغَةُ الخُطْبَةِ، وَلُغَةُ الإِمَامَةِ، وَلُغَةُ العِلْمِ، وَلُغَةُ التَّعْلِيمِ، وَلُغَةُ التَّوْجِيهِ، وَلُغَةُ الخِطَابِ الجَامِعِ، لَا تُقْصِي أَحَدًا، وَلَا تُغْلِقُ بَابًا، بَلْ تَفْتَحُ لِلنَّاسِ طَرِيقَ الفَهْمِ المُشْتَرَكِ، وَالانْتِمَاءِ الرُّوحِيِّ الوَاحِدِ.
وَهَكَذَا صَارَتِ لُغَةً عَالَمِيَّةَ الوَظِيفَةِ، يَعِيهَا مَنْ لَمْ يُولَدْ عَرَبِيًّا، ويَأْلَفُهَا مَنْ لَمْ يَنْشَأْ فِي بِيئَتِهَا، لِأَنَّهَا اقْتَرَنَتْ بِالمُقَدَّسِ، وَاتَّصَلَتْ بِالعِبَادَةِ، فَصَارَتْ أُنْسًا لِلْقُلُوبِ قَبْلَ الأَلْسُنِ.
اليَوْمُ العَالَمِيُّ لِلْعَرَبِيَّةِ: اسْتِحْضَارُ الرِّسَالَةِ لَا مُجَرَّدُ احْتِفَاءٍ
إِنَّ الِاحْتِفَاءَ بِاليَوْمِ العَالَمِيِّ لِلُّغَةِ العَرَبِيَّةِ لَا يَكْمُلُ إِنِ اقْتَصَرَ عَلَى الفَخْرِ بِمَاضِيهَا، أَوِ الأَسَفِ عَلَى حَاضِرِهَا، بَلْ حِينَ نَجْلُو عَنْها سِرَّهَا، فَنُقَيِّدُهَا بِرِسَالَتِهَا الكُبْرَى الَّتِي انْطَلَقَتْ مِنَ الحَرَمَيْنِ: رِسَالَةِ الهِدَايَةِ، وَالعَدْلِ، وَالبَيَانِ الوَاضِحِ.
فَاللُّغَةُ الَّتِي ارْتَبَطَتْ بِالحَرَمَيْنِ لَيْسَتْ مِلْكًا لِلتَّرَفِ الثَّقَافِيِّ، وَلَا مَادَّةً يَتَزَيَّا بِهَا الخُطَبَاءُ، وَإِنَّمَا هِيَ أَدَاةُ فَهْمِ الدِّينِ، وَوَسِيلَةُ بِنَاءِ الوَعْيِ، وَجِسْرُ الصِّلَةِ بَيْنَ الشُّعُوبِ.
وَمِنْ هُنَا، فَإِنَّ وَاجِبَنَا تُجَاهَ العَرَبِيَّةِ -وَلَا سِيَّمَا وَنَحْنُ نَسْتَحْضِرُ الحَرَمَيْنِ- أَنْ نُعِيدَهَا إِلَى مَوَاقِعِهَا الطَّبِيعِيَّةِ: لُغَةً لِلدِّينِ، وَلُغَةً لِلْعِلْمِ، وَلُغَةً لِلْفِكْرِ، وَلُغَةً لِلْخِطَابِ الرَّشِيدِ، وَلُغَةً لِلْحِوَارِ الحَضَارِيِّ المُتَّزِنِ.
وختم كلمته
فالعَرَبِيَّةُ بَاقِيَةٌ مَا بَقِيَ الحَرَمَانِ، وَسَتَظَلُّ غَضَّةً فِي النُّفُوسِ وَالقُلُوبِ مَا دَامَ فِي الأَرْضِ مَنْ يَقْرَأُ القُرْآنَ، وَيُؤَذِّنُ لِلصَّلَاةِ، وَيَدْعُو رَبَّهُ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ.
وَإِنَّ مِنَ الوَفَاءِ لِلْعَرَبِيَّةِ أَنْ نُذَكِّرَ بِهَا فِي يَوْمِهَا العَالَمِيِّ لَا لِنْحِيِيَ أَثَرًا تالِدًا، بَلْ لِتَبْقَى لُغَةَ المُسْتَقْبَلِ، مَا دَامَتْ مُتَّصِلَةً بِالوَحْيِ وَالحَرَمَيْنِ، حَامِلَةً لِرِسَالَةِ الإِنْسَانِ للإِنْسَانِ.
نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَحْفَظَ العَرَبِيَّةَ بِحِفْظِ كِتَابِهِ، وَأَنْ يُعِزَّهَا بِعِزِّ دِينِهِ، وَأَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ خَدَمِها الصَّادِقِينَ، العَامِلِينَ بِهَا عِلْمًا وَعَمَلًا، قَوْلًا وَبَلَاغًا.




