أصبحت الإدارة البيئية في المملكة العربية السعودية اليوم ركناً أصيلاً من أركان التنمية المستدامة ضمن مستهدفات رؤية السعودية 2030، حيث انتقل التنظيم البيئي من منطق المعالجة اللاحقة للأضرار إلى نهج الوقاية والاستباق. وفي هذا الإطار يبرز مبدأ (الاحتراز البيئي) بوصفه أداة تنظيمية وقانونية جوهرية لضبط المشاريع العمرانية، ولا سيما تلك المقامة في البيئات الحساسة ذات التوازن الدقيق، كما هو الحال في وادي السرح الذي نحن بصدده.
يقع وادي السرح في شمال مكة المكرمة ويخضع إشرافيا لأمانة العاصمة المقدسة وعلى هيئته اليوم يمثل نظاماً بيئياً وهيدرولوجياً متكاملاً، فهناك آلاف الأشجار والشجيرات التي تغطي الوادي وتمنحه بعدا بيئيا كبيرا فالتنوع الشجري المعمر والدائم يشكل عمقا بيئيا تؤدي فيه الأودية والغطاء النباتي معا دوراً حيوياً في تنظيم الجريان السطحي للسيول وثبات القطاع النباتي ودوام خضرته وحماية التربة من الانجراف، والحفاظ على التنوع الحيوي. وعليه، وتشير المؤشرات الفنية إلى أن التنفيذ التقليدي قد يفضي إلى أضرار بيئية غير قابلة للاستدراك، الأمر الذي يستدعي تفعيل الأدوات النظامية قبل الوصول إلى مرحلة الضرر الفعلي.
الإطار النظامي: قوة نظام البيئة 1441هـ :
لا يعد مبدأ الاحتراز خياراً تقديرياً، بل هو التزام نظامي نص عليه نظام البيئة 1441هـ ، إذ منحت بعض مواده الجهات المختصة صلاحية تعليق أو إيقاف أي نشاط متى ما وُجد احتمال لوقوع ضرر بيئي، دون اشتراط تحقق الضرر فعلياً. ويجنب الخسائر الناتجة عن إيقاف المشاريع بعد بدء تنفيذها. كما أن وجود شك علمي حول قدرة الوادي على استيعاب التوسع العمراني يوجب، نظاماً، إعادة فحص دراسات الأثر البيئي بمستوى أعلى من الدقة.
عندما تشارك وزارة البيئة والمياه والزراعة مع مراكزها مثل المركز الوطني لتنمية الغطاء النباتي ومكافحة التصحر إلى جانب المركز الوطني للإلتزام البيئي وفرع وزارة البيئة بمنطقة مكة تصبح فاعلية القرار البيئي الإحترازي واضحة وقاطعة في تنفيذها .
ومن الرائع جدا قانونيا أن تتضمن كراسة شروط المطور العقاري عدداً من الالتزامات البيئية الأساسية، التي تؤمن الحد الأعلى في الحفاظ على البيئة والغطاء النباتي ومن أبرزها:
الحفاظ على الغطاء النباتي ومنع إزالة الأشجار أو التعدي عليها إلا بتصاريح نظامية، مع إلزام المتسبب بالتعويض وإعادة الزراعة.
الالتزام بدراسة الأثر البيئي للمشاريع ذات التأثير المحتمل، وعدم الشروع في التنفيذ قبل اعتمادها.
إعادة تأهيل الموقع بيئياً بعد انتهاء الأعمال، حال وجود أي ضرر بما يضمن استعادة التوازن البيئي قدر الإمكان.
إن تفعيل مبدأ الاحتراز البيئي لا يعني بالضرورة إلغاء المشروع بل يهدف إلى إعادة توجيهه عبر ثلاثة مسارات متكاملة:
المراجعة التصحيحية: إعادة تصميم المخطط بما يحافظ على مجاري الأودية والغطاء النباتي المعمّر، والموسمي.
الرقابة الصارمة: تتضمن كراسات الشروط والمواصفات بنوداً ملزمة تمنع التجريف العشوائي، وتفرض معايير الاستدامة البيئية على جميع مراحل التنفيذ.
المساءلة والتعويض: تفعيل الجزاءات النظامية، بما في ذلك الغرامات المالية، وإلزام المتسببين في الضرر البيئي بإعادة تأهيل أي ضرر وفرض الغرامات وهو ما تتبناه اليوم وزارة البيئة.
إن تطبيق مبدأ الاحتراز البيئي يرسخ حق المجتمع في بيئة سليمة، ويعزز ثقة المواطنين في قدرة الجهات المختصة على اتخاذ قرارات متوازنة تجمع بين التنمية والحماية. كما أن الحفاظ على الأصول الطبيعية وزيادة الرقعة الخضراء يمثلان استثماراً اقتصادياً طويل الأمد، ينعكس إيجاباً على قيمة المشاريع العقارية نفسها، بما يجعل من موقع مخطط وادي السرح نموذجاً للتطوير العقاري المستدام بدلاً من أن يكون سبباً في تدهور بيئي دائم ومراجعات قانونية واسعة قد تكلف الجهات المسؤولة تبعات قانونية واسعة جدا. فإ عادة التأهيل شديدة التكاليف خاصة مع وجود مجتمع محلي واعي تماما لهذه التبعات وطريقة تفعيلها عبر المؤسسات الحكومية القانونية التي أصبحت اليوم في كامل حوكمتها وقانونيتها.





