الأستاذ أحمد بُني صاحب القلم والعلم والضحكة والكرم).
قد بدأنا الجزء الأول من سيرة المربي الفاضل الوالد أحمد بن سعد مبارك الكليب رحمه الله عن قوة قلمه وكيف استغل موهبته في الخط والتعبير والبلاغة في خدمة الناس ومساعدتهم وذلك بكتابة المعاريض والخطابات لهم.
في هذا الجزء سنتاول موضوع العلم وكيف أثر حب العلم في مسيرته رحمه الله حيث كان شغوفاً بالعلم وعاشقاً للقراءة .
وعندما نتحدث عن العلم في حياة الوالد المربي الأستاذ احمد (بُني) سنخصص أغلب المقال عن حياته في التعليم لأن العلم والتعلم والتدريس والتعليم هم المنعطافات المهمة في مسيرة الوالد الأستاذ أحمد رحمه الله.
كان رحمه الله محباً وعاشقاً للقراءة وهذا ما ساعده على بناء ملكات فكرية ولغوية وبلاغية على مستوى عال من الإتقان والتمكن فقد أجاد فن كتابة الخطابات بطريقة عبقرية وفريدة فلم يكن مقلداً لأحد أو تابعاً لمدرسة معينة بل كان له أسلوب خاص به في الكتابة ولم يكن متمسكاً بأسلوب معين في جميع خطاباته بل نراه يميل إلى التنويع في الأسلوب وطريقة عرض الخطاب فلا تجد تشابه بين خطاباته وإن كان يحافظ على روح بناء الخطابات فتعرف من قوة بعض الألفاظ وتماسك وتسلسل جمل الخطاب إنه أسلوب الأستاذ احمد رحمه الله. فبدون شك ان قراءة الكتاب النافعة ساهمت في صقل موهبته الكتابية وهذا ماكان يذكره لطلابه أو من يحضرون مجلسه . كان محباً لكتب التاريخ والسيرة وكذلك كتب تفاسير القران الكريم وكتب اللغة . فمن كان يحضر مجلسه كان يلاحظ استشهاده الدائم بالأيات أو الأحاديث أو ذكر قصة من التاريخ أو ذكر حكمة أو مثل عربي . اقتنى الكثير من أمهات الكتب والمجلدات في شتى أنواع العلوم والفنون حتى كون مكتبة تعتبر من أكبر المكتبات المنزلية ليس في مدينة العيون فقط بل على مستوى المنطقة . ولكن للأسف جميع الكتب قد بيعت !.
كان رحمه الله يشعر بالمرارة ويصمت لحظات ويكاد الدمع يسقط من عيناه إذا تذكر مكتبته .
ذات يوم سألته كيف استطعت أن تبيع كتبك وتستغني عن مكتبتك؟
قال لي : والله أني لم أكن مستشعر بصعوبة هذا القرار حتى أني لم استوعب قراري ولم أصدق أني بعت كتبي إلا بعد مارأيت غرفة المكتبة خاوية من الكتب . هنا تيقنت أني قد كتبت نهاية حياتي ورأيت الموت وشعرت بمرارته .
الظروف قد تجبر الشخص على بيع أغلى مايملك لكي يبقى عزيز النفس محافظ على كرامته .
كانت مكتبته مرجع لكثير من الطلاب الجامعيين حيث كانوا يستعيرون الكتب منها .
يقول رحمه الله : كانت مكتبتي أشبه بمكتبة جامعية أو عامة يستفيد من الكثير من الطلاب الذين كانوا يوم من الأيام طلابي وهذا مايدخل السرور إلى قلبي وكنت أعتبر إعارتهم الكتب كزكاة العلم الذي أمتلكه أرجو ثوابه عند الله.
ساهمت القراءة أيضاً في اتساع الإدراك المعرفي والثقافي لدى الوالد المربي الأستاذ أحمد رحمه الله ، فقد كان مرجع في اللغة والثقافة . كان رحمه الله يجيب على أسئلة مسابقة القران الكريم التي كانت تعرض في التلفزيون السعودي كل رمضان حتى انه يجيب على السؤال بعد الإنتهاء من عرضه مباشرةً أو يذهب للمرجع الذي فيه الجواب محدداً عنوان المرجع وكان ينشر الإجابات لمن أراد الاشتراك في المسابقة فأصبح الكثير من الراغبين في الاشتراك في المسابقة ينتظرون نشره للإجابات حتى قرر وضع الإجابات في مكتبات العيون وعرضها مجاناً لهم .
وفيه معلومة قد لا يعلمها الكثير عن المربي المبجل الأستاذ أحمد الكليب رحمة الله وهذه المعلومة دليل على تأثير العلم والقراءة عليه . كان رحمه الله ينوي إصدار كتاب فيه معلومات عامة وتكون بشكل سين جيم قبل أن تتنشر الكتب التي تحمل نفس العنوان أو الفكرة وبالفعل كتب مسودة وجهز جميع المراجع وقطع شوط كبير في تأليف او تجميع المعلومات وتنسيقها ولكن للأسف وبسبب انشغاله اختفت المسودة ولم يظهر لها آثر . كان ينوي على تجميعها مرة أخرى ولكن ظهرت كتب تحمل نفس الفكرة فصرف النظر عنها .
لم يكتب الله له ان ينشر الكتاب الذي كان سيعتبر أول كتاب يحمل فكرة قراءة معلومات متنوعة في جميع الفنون مجمعة في كتاب واحد وبشكل سين جيم .
ننتقل إلى مسيرته في التعليم وهي المرحلة التي تعتبر المنعطف الأهم في حياته رحمه الله واسكنه فسيح جناته .
لقد قضى رحمه الله أغلب سنوات عمره في مهنة التدريس التي كانت بدايته فيها عام 1382 هـ حتى تقاعده1416هـ.
كان يؤمن أن التدريس رسالة وليست مهنة فقط ، يستمتع بالتدريس ويشعر بالراحة في الفصل بين الطلاب ، كان يعشق التدريس ويتنفس نشوةً إذا قام بالشرح . دائماً يرى نفسه في الفصل وسط الطلاب فهم جزء منه وهو جزء منهم . عندما كلف بالإدارة لم يستطع الاستمرار فيها لأنه ولد في غرفة الفصل إذا جاز التعبير ودائماً يردد أنه يجيد التدريس ويتقنه ولا يحب الإدارة ، لم يكن سبب عزوفه عن الإدارة عدم القدرة ولكن قد يكون مؤمناً بالمقولة المشهورة الإدارة مقبرة للمعلم الذي يعشق التدريس . حكى لي الأستاذ حسن عبدالكريم السوداني رحمه الله قصة طريفة عن المرحوم بأذن الله عندما تولى إدارة مدرسة سيهات ولا أذكر هل كان شاهداً للموقف أو يرويها عن أحد أصدقائه السودانين ، يقول الأستاذ حسن رحمه الله عندما كلف الأستاذ أحمد الكليب مديراً لمدرسة سيهات اجتمع بالمعلمين وأصدر قرار لم يسبقه به أحد وهو بداية الدراسة يكون وقت الحصة الثالثة بدلاً من الساعة السابعة حتى يكتفي المعلمين والطلاب من النوم .
رويت هذه الحكاية للوالد احمد رحمه الله وقد أكدها لي وقال إنه أراد كسب رضى المعلمين والطلاب من جهة وحتى أرغم إدارة التعليم على إنهاء تكليفي من الإدارة ، ولكن بعد ماعلموا عن قراري أبطلوه وأصروا على تكليفي وكيل وإحضار مدير للمدرسة فوافقت .
الأستاذ المبجل والمربي الفاضل أحمد الكليب (بُني) رحمه الله لم يكن معلماً للطلاب فقط بل كان أباً ومربياً مخلصاً لهم . كانت حصته مشوقة وممتعة وفيها الكثير من الأنشطة وكأنها مجموعة حصص في حصة وكان دائماً يختم حصته برواية قصة من التراث فيها من الحكم والعبر والأمثال .
كان الطلاب يتسابقون للفوز على حمل حقيبته عند قدومه للفصل أو خروجه من المدرسة . كانوا ينتظرون حصته بشوق وحماس وماتسابق الطلاب على حمل حقيبة معلمهم إلا دليل على محبتهم واحترامهم وتقديرهم له واشتياقهم لدروسه ودليل على نجاح المعلم في كسب ود طلابه وقليل من المعلمين من يكسب ود الطلاب وحتى هذا الوقت ( وجهة نظر خاصة ) لم يأت معلم كسب ود الطلاب مثل المربي الفاضل الوالد احمد رحمه الله .
كان طلابه يتقبلون عقابه لمعرفتهم أنه لم يعاقبهم إلا من أجل مصلحتهم ومحبة لهم . كان يعاقبهم بالعصا الذي كان يسميها (منى)التي رافقته لأكثر من ثلاثين عاماً . لا أعرف سبب تسميتها بمنى وهو لم يفصح عن سر التسمية والحقيقة . من يعرف تركيبة شخصية المرحوم بأذن الله يحلل سبب التسمية هو التخفيف من الرعب الذي يشعر به الطالب إذا رأى العصا . لم يكن يستخدم الضرب إلا في الحالات النادرة وفي الوقت الذي يرى ضرورة استخدامه ، حتى إنه كان يضع العصا في الحقيبه بعد معاقبة الطالب . كان يهدد الطالب المقصر باستدعاء (منى)فأصبحت العصا(منى) مصدر أمان للطالب بالرغم إنها وسيلة عقاب ويرجع ذلك لعبقرية المربي الفاضل الأستاذ الوالد احمد الكليب (بُني) رحمه الله الذي استطاع تهيئة الطالب نفسياً للعقاب بطريقة تشعره بعدم الرهبة .
تلك العصا (منى) التي خلق منها الأستاذ الوالد احمد رحمه الله شخصية محبوبة تنفذ العقاب وعاصرت أجيال من الطلاب اصبحوا موظفين وأباء وأجداد.
حقيبة المرحوم بأذن الله كانت ثقيلة جداً بسبب الكتب التي يحملها الأستاذ معه ومجموعة الأقلام التي يقدمها هدايا للطلاب المجتهدين وأيضاً يوجد في الحقيبة مجموعة من الطباشير الملونة والبيضاء والمساحة ، كان يدخل الفصل ومعه جميع أدواته لم يعهد عليه إرسال طالب لإحضار طبشور أو ممحاة أو قلم للتصحيح . جميع مايحتاج من أدوات موجودة في حقيبته .
علاقة المربي المبجل الأستاذ أحمد رحمه الله بالطلاب لم تكن داخل الفصل فقط بل في النشاطات اللاصفية ، بكونه رائد النشاط أو ماكان يسمى سابقاً المشرف الاجتماعي ساهم في تنمية عقول الطلاب ثقافياً وعلمياً وأحد الأمثلة على ذلك كتابته للصحف الحائطية كان يكتبها بخط يده ويختار مواضيعها من المعلومات الموجودة في مكتبته واختيار مواضيع تناسب عمر الطلاب اللغوية،فقد كان لهذه الصحف دور رئيس في تثقيف الطلاب وزيادة حصيلتهم اللغوية .
ومن الأنشطة التي كان رحمه الله يحرص على تنفيذها ،وينتظرها الطلاب بفارغ الصبر ، رحلة لشاطئ نصف القمر (هاف مون) أو ميناء العقير . كان رحمه الله ملتزماً بتنظيمها سنوياً ومن النادر أن يكون أحد المدرسين مرافقاً له في الرحلة فقد كان ينظم ويقود ويهتم بأكثر من ثلاثين طالب وكان يطبخ بنفسه وجبة الغداء للطلاب وكان يجيد فن الطبخ .
تخرج على يديه الكثير من الطلاب من الخبر وسيهات والعيون والشهارين وجميع طلابه لازالوا يذكرونه بخير ويثنون عليه وفي وقت العزاء تقاطر الكثير من طلابه من كل مكان لتقديم واجب العزاء في معلمهم العبقري والمربي الفاضل.
المعلم المخلص سيخلد ذكره حتى وهو غائب عن الدنيا .
بعد أربع وثلاثين عاماً في مهنة التعليم ترجل فارس التعليم المربي الفاضل أحمد الكليب رحمه الله وتقاعد تقاعداً مبكراً عام 1416هـ.
كان تقاعده المبكر صدمة لزملائه وطلابه وأولياء الأمور وحاولوا إقناعه بالعدول عن قراره ولكن أصر على قراره رحمه الله .
وعند سؤاله عن سبب تقاعده المبكر .
أجاب رحمه الله قائلاً : أني أعشق التدريس عشق محب متيم بمحبوبته ولم أتخيل في يوم من الأيام إني سوف أغادر ميدان التعليم مبكراً ولكن كوني معلم لغة عربية لا أستطيع إكمال المشوار لأن تدريس اللغة العربية يحتاج جهد مضاعف وجسم خالي من الأمراض وأنا أرى نفسي لست ذلك المعلم الذي كان قبل سنوات فالجهد بدأ يقل والأمراض استوطنت الجسد وأخاف أن أقصر في الأمانة فأختم حياتي في التعليم وأنا لست راض عن نفسي فكنت بين خيارين إما الاستمرار في التدريس مع يقيني بأني استنفذت كل طاقتي وإما أن أتقاعد وأنا مقتنع وراضي عن نفسي فاخترت التقاعد فهو مع صعوبته علي إلا إنه أهون من أن ينظر لي الطالب بأني معلم لست بكفء عندما أقصر في واجبي تجاهه بسبب قلة الصحة وقلة الجهد المبذول.
حضر رحمه الله أخر يوم له في التعليم وهو يحمل دفتر التحضير وفيه تحضير دروس ذلك اليوم ودفاتر الطلاب الذي اعتاد على تصحيحها في البيت أحضرها مصححة ومكتوب فيها تاريخ اليوم الذي سيتقاعد فيه ، التزم بأمانة المهنة حتى أخر يوم له في التعليم .
رحم الله الوالد المربي الأستاذ / أحمد بن سعد مبارك الكليب المعلم العبقري الأنسان والأستاذ النادر .
اللهم اعفو عنه واسكنه فسيح جناتك . آمين .
نلقاكم في الجزء الثالث والأخير بمشيئة الله تعالى
كتبه
عبدالله بن جمعه الكليب
استراليا . سدني