(السحور يا عبيد الله السحور) نداء أعتاد الناس على سماعه في شهر رمضان من كل عام من رجل يدعى «المسحراتي»، وهو محبوب لدى الجميع ولا يكتمل شهر رمضان إلا بوجوده ولكن هذا العام سيكون مختلف تمامًا فلن يخرج المسحراتي بسبب هذه الجائحة لذا تبقي لنا الذكريات التي لا تنسى لنتعرف سويًا على هذا الرجل واهميته ودوره وما طريقته في التسحير وهل يختلف من منطقه لأخرى؟
مع «الغريافي» حيث يأخذنا إلى جولة تاريخية ويعبر بنا حقبة من الزمن من خلال حواره الخاص مع صحيفة « شاهد الآن الإلكترونية»، حيث بدأ الحديث بالحمد والثناء والصلاة على رسوله ثم حدثنا عن نفسه : عبد رب الرسول علي الغريافي، باحث في تاريخ وآثار الشرقية، بعدها أنطلق بنا إلى جولة تاريخيه مع المسحراتي حيث قال: المسحر – كما يدعى- بلهجة جميع مناطق ودول الخليج وكنيته أيضا (أبو طبيلة) لكونه يحمل طبلًا لتساعده على توصيل صوت النداء لإعلان وقت السحور.
وفي أغلب الدول العربية يضاف إلى هذا الإسم الياء أو تكسر التاء فيدعى (مسحراتي) لكون أن العديد من المسميات التي تطلق على أصحاب المهن والحرف والتي هي على وزن (مفعل) فإنها أولًا تجمع على هيئة مؤنث ولكن بفتح الوسط ومن ثم تضاف الياء في آخر الكنيه كالمصوراتي والمغنياتي والمسحراتي وغيرها وهذا شائع عند أهل مصر وبلاد الشام والدول المجاورة لها.
وقال : لا شك أن الطرق والعادات تتنوع وتختلف بين المناطق حسب تأثير البيئة عند المسحرين ولكن يظل الهدف واحد وهو إيقاظ الصائم وقت السحر وقبل الأذان ليتزود بالأكل والشرب قبل وقت الصيام الذي كتب على المسلم كما قال جل وعلا 🙁 يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)، فالظروف الإجتماعية وكذلك البيئة وطبيعة انثروبولوجيتها تخلق بعض الإضافات البسيطة المتراكمة ما يجعلها تتحول إلى عادات مستقلة تخص مسحري كل مجتمع.
وأضاف : في الخليج العربي – مثلا- يأخذ المسحر طابعًا عامًا متميزًا به عن بقية المناطق العربية كما وتختص كل منطقة بعادتها الخاصة بها حسب ظروفها، فالمسحر مثلا في منطقة القطيف ونواحيها نجد أنه في بعض القرى يحمل معه طبلًا والبعض يكتفي بحمل عصا متينة تعرف بالعجرة ليطرق بها على الأبواب وكان قبل زمن الكهرباء يحمل معه فانوسا بعمل بالكيروسين (الكاز) أو مصباحًا يعمل بالبطاريات ليبدد عنه الظلام ويساعده على الرؤيا، والمسحر هذا يمر على جميع بيوت أهل الحي بيتًا بيتا ليطرقها كما أنه يعرف أصحاب هذه البيوت وجميع أفرادها ويعرف أهل الحي جميعهم، فحين يطرق باب أحد البيوت فإنه ينادي بأسماء أهل البيت نفسه (الذكور البالغين) فردا فردا مبتدءا بإسم رب الأسرة وخصوصًا الجد إن كان على قيد الحياة،: يا أبا فلان ويا فلان ويا فلان ولا يغادر باب المنزل حتى يجيبه أحد أفراد الأسرة (بنعم) ويتبادلان التحية ثم ينصرف لجاره وهكذا، وأثناء مروره بين البيوت وخصوصًا إن كان هناك بين البيت والآخر مسافة بائنة فإنه يستغل وقت الإنتقال لينشد ترانيم تحتوي على بعض الذكر كأن يقول: (السحور يا عبيد الله السحور).
وزاد : المسحر هو أحد أفراد الحي أو البلدة المعروف عنه بأنه متعهد (بتسحير) أي إيقاظ أفراد كل بيت من بيوت الحي أو البلدة في كل عام عندما يحل شهر رمضان المبارك وذلك لتناول وجبة السحور، وفي العادة هو رجل من ذوي الدخل المحدود جدًا إذ أنه يتوجب على الجميع من أفراد الحي أو البلدة مد يد العون له بتكريمه في نهاية الشهر إذ أن الكثير يقدمون كسوة عينية لبعض أفراد أسرته بالإضافة إلى مبلغ زهيد من المال لقاء أتعابه والبعض يقدم له أيضًا بعض الحبوب كالأرز والهريس وغيرها مع كلمات تكريمية وشكر وتقدير.
في نهاية الشهر ينشد المسحر بصوت شجي يودع شهر الصيام يسمعه أهالي البيوت وبعضهم يجهش بالبكاء حين يسمعونه وخصوصًا النساء، فيلقي كلمات حزينة حيث يقول مثلًا:
ودعوا يا كرام شهر الصيام
الوداع الوداع يا شهر رمضان
وعليه الصلاة وعليه السلام.
ومضى يقول : في العهد الحديث وخصوصًا بعد ظهور انتشار الكهرباء في نهاية الستينات من القرن الماضي بدأ شخص المسحر يظهر جليًا أمام ناظري كل طفل بعدما كانوا يتصورون أنه مثلا رجل قادم من كوكب آخر أو كما يعتقد الطفل المسيحي في شخصية بابا نويل، فحين انكشف عنه الظلام وبدأ بإمكان الأطفال يطلون عليه من النوافذ ليتعرفوا على شخصيته المحبوبة بدأ منهم التجرؤ على الخروج من بيوتهم للتعرف عليه عن كثب ثم تمادوا إلى الوصول إلى صحبته من بيت إلى بيت مرددين معه ما يقول، كما وقد لعبت كلا من الكهرباء والبرامج التلفزيونية بدورهما في تمديد فترات السهر في شهر رمضان فبعد أن كانت أوقات السهر مقتصرة على وقت قراءة القرآن والدعاء وبعض العبادات فقد تجاوزت فترة السهر في عصر البرامج المفتوحة حتى مطلع الفجر، وبذلك فقد ضعف دور المسحر الحقيقي فأصبح دوره دورًا ثانويًا تقليديًا مستمرًا على سبيل الذكرى وإن كان هناك بعض الأهالي من أحياء وبلدات المنطقه يعتمدون عليه وخصوصًا كبار السن الذين لا زالوا يمقتون السهر الطويل.
وفي ختام الجولة وجه كلمة لمجتمع يدعوهم فيها للصبر، فشهر رمضان هذا العام قد يختلف تمامًا عما سواه من السنوات الماضية إذ لم نعهد أنه مر على المسلمين وهم في مثل هذه الظروف ومن يعلم لعله قبل مئتي عام أو تزيد أو تنقص حين انتشرت بعض الأوبئة الفتاكة كالطاعون فلربما قد تعرضوا لمثل ظروف الحجر هذه أو أكثر حيث أنها كانت أكثر خطورة وأشد فتكًا وخصوصا في غياب الوعي الصحي والعلاج وأساليب الوقاية، وفي القطيف وحدها تعرضت عام 1970 لحجر صحي بسبب وجود حالة من الكوليرا فعزلت عن المناطق المجاورة لها ولكن دون العزل بين الناس فقد كانوا يمارسون حياتهم الطبيعية إذ لم يكن لها صدى كبير مثل هذا العام إذ أن تأثير هذه الجائحة شمل العالم بأكمله فجميع الأمة الإسلامية تعيش مجتمعاتها وهي قابعة في بيوتها دون التمكن من ممارسة أي طقوس دينيه جماعية فديننا الحنيف يرشدنا إلى عدم تعرضنا إلى التهلكة كما قال الله عز وجل: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۛ وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)، ومن هذا المنطلق سيعيش العالم الإسلامي هذا العام أجواء لم يعهدوا مثله طوال حياتهم من قبل وهو الحجر الصحي داخل المنازل والإنعزال عن الناس دون ممارسة أي عمل ديني جماعي، ولعل وسائل التواصل الاجتماعية الحديثة تمكننا من اللقاء ورؤية بعضنا وممارسة بعض العبادات واللقاءات عن بعد فنلتقي جميعًا مع من نحب ولكن دون التقاء الأجساد وهذا يخفف علينا الوطئ لوجود هذه النعمة، لذا ونحن تحت وطأة هذه الجائحة يجب علينا أن نقهرها بالتحلي بالصبر والإنتظار حتى تستحكم حلقاتها، ثم بعد ذلك تنفرج حتى وان كنا نظن أنها لا تفرج.