ترجم المسلسل الخليجي” سما عالية” المعنى الحقيقي لجملة “عمل درامي عربي” والتي تم حصرها ولفترة طويلة في مشاركة فنانين من عدة دول عربية في عمل درامي واحد، أُقرُ ذلك ليس لأنه نال أفضل مسلسل على صعيد الدراما العربية في استطلاع صحيفة الخليج وحسب، ولا لأن وجود الفنانين العرب فيه كان ضمن حبكة وتداعيات القصة ولم يكن مجرد إقحاماً فقط، بل لأن القضايا التي عالجها والمرحلة الانتقالية التي سلط الضوء عليها هي في الواقع قضايا مشتركة ومرحلة واحدة مرت بها جميع الدول العربية في فترة من فتراتها ولا زالت، حتى وأن اختلفت تفاصيل المرحلة فالمضمون واحد، خاصة وأن المحور الرئيسي الذي دارت حوله أحداث المسلسل هو التأكيد على أن الفرد هو الأساس في تغيير النظام الاجتماعي للأفضل، وتطوير النظام السياسي خاصة في بلداننا العربية، وأن تحرير المجتمعات من الموروثات والمعتقدات الخاطئة البالية الباعثة على الجمود والتوقف عند مرحلة معينة يبدأ بالمبادرات الفردية، يؤكد ذلك أن الدول التي تأخرت عن غيرها في التقدم الحضاري هي التي افتقرت للمبادرات الفردية الرائدة.
لقد عكس لنا ” سما عالية” بعمق متناهي حقيقة ما حدث ويحدث في مسيرة التغيير المستمرة والصراعات القائمة فيها، والتي قد يتصور من يشاهد المسلسل للوهلة الأولى أنها وقفت على تغيير الظاهر فقط، ولكنه يكتشف لا حقا أن المسألة أعمق بكثير مما حسب وأنها لا تقف إطلاقاً عند التغيير الخارجي، بل أن المسلسل ناقش قضية غاية في الأهمية وهي الصراع الداخلي الذي يعيشه الفرد السائر على خطى التغيير بين ما يؤمن به ويقره، وما يؤمن به مجتمعه من معتقدات خاطئة تعرقل تقدمنا وحضارتنا، مما يقوده في النهاية للوقوع في شرك الإزدواجية، أو بمعنى أدق الفصام الاجتماعي، الذي لا يمكن أن ينهض مجتمع يتفشى فيه نهضة حقيقية، ويتضح ذلك جلياً في المسلسل من خلال مشهد رفض بطل العمل راشد حصر التغيير الذي أقرته شيخه في مظهرها خارج حدود الوطن، والتخلي عنه بعد العودة لوطنها إرضاءًا لعائلتها وخوفاً من تبعات المواجهة، ليقنعها بمواجهة نفسها أولا ثم عائلتها ومجتمعها، موجها رسالة عظيمة ومهمة وهي أن الحرية والتغيير لا يمكن أن يحدثا دون المواجهة والثبات على المبدأ مهما كان الثمن، وأن تغييرنا هو الذي يغير واقعنا نحو الأفضل، وأننا بحاجة لمن يبادر، و لم يعني راشد التغيير الخارجي أو المظهر فحسب، وإنما قصد تغييرا أعمق وأكبر ولكن التغيير الخارجي كان الوسيلة لطرح الفكرة وإيصال الرسالة.
والحقيقة أن “سما عالية” بما يحمله من أبعاد سياسية واجتماعية وإسقاطات مفصلية يتضمن رسائل جوهريه عديدة جاءت في الوقت المناسب على ما أعتقد، فهزات التغيير الاجتماعي التي انحصرت في مجتمع كل دوله على حدا سابقاً، أصبحت عامة الآن بعد أن غدا العالم قرية صغيرة في ظل هيمنة التكنولوجيا عليه.
وعلى جانب آخر قلما نجد أعمال تحقق عنصر التكاملية بهذا المستوى عالي الجودة، فبدأ الإبداع من كاتبا العمل الأستاذ صالح النبهان والأستاذة شيخة بن عامر اللذان لفتا انتباهي في طريقة عرضهما للتحولات السياسية والاجتماعية بطريقة ذكية وسلسلة لم توقعهما في مأزق الثغرات التاريخية كما يحدث غالباً في هذا النوع من الأعمال، فكنا أمام قصة تحمل فكر ومضمون ثري وجريء وحبكة درامية نحتاجها جداً في الدراما الخليجية، خدمها سيناريو كتب بدقة وبراعة واحترافية أبهرتنا، وإخراج تعدى مرحلة الإبداع بمراحل، فالعمل ضم نجوم عمالقة وفنانين شباب منحهم النص المساحة ليبدعوا ويقدموا أنفسهم، و قدم لهم المخرج المبدع المختلف محمد دحام الشمري الفرصة ليقدموا أعلى درجات الإبداع بعد أن أخرج الطاقات المكتنزة داخل كل واحد فيهم، ليفاجئنا حتى في النجوم الذين أعتدنا عليهم، فنرى على سبيل المثال الفنانة زهرة الخرجي كيف تألقت وأبدعت في دور الأم التي شهدت التحول في شخصيات أبناءها وكيف تعاطت مع هذا التحول بصورة واقعية أقنعتنا للحد الذي نقلنا معها داخل الشاشة، وكذلك فعل مع النجوم الشباب فقد أبهرتنا الفنانة المبدعة التي تستحق جائزة لإبداعها شيماء سلمان في أداءها لشخصية شيخه لدرجة أننا نسينا شيماء سلمان التي ذابت تماما في شخصية شيخه وعشنا مع شيخة بكل تفاصيلها، وكذلك هو الحال مع الفنان المتألق حمد العماني، والفنانة الرائعة فوز الشطي، وكذلك شخصية سميرة وثنيان، ولعل ما عزز من أداءهم جميعا اهتمام المخرج المبدع محمد دحام الشمري بتفاصيل التفاصيل وتوظيفه العبقري للكادر، فلم يترك ثغره دون أن يهتم بها، وكعادته يدفع الممثل لتوظيف كل طاقته ولغة جسده في أدائه دفعاً فترى الممثل وهو يؤدي الدور بروحه وجوارحه قبل لسانه وملامحه، ولا أنسى الإشارة إلى الإبداع الرهيب في موسيقى الشارة والموسيقى التصويرية للعمل، والذي يعد عملاً إبداعياً قائما بذاته دون مبالغة، والإنتاج الذي دعم العمل ليظهر بهذه الصورة الرائعة التي جذبتنا لمشاهدة ” سما عالية ” بكل شغف في الموسم الرمضاني الذي يعج بالأعمال الدرامية العربية وأهلته لينال أفضل مسلسل على صعيد الدراما العربية ضمن استطلاع صحيفة الخليج السنوي لبرامج ومسلسلات رمضان، لقد نجح “سما عالية” في إعادة الثقل للدراما الخليجية.
غادة البشر/ كاتبة وإعلامية سعودية