كثيرًا ما ننسى أو نتناسى في زحمةِ نِعم الله علينا أن تلك النِّعم التي نتقلَّب فيها بجميع تفاصيلها قد حُرمها كثيرٌ من العالمين، فهي ليست نِعمًا “افتراضيَّة” تتحقَّق للجميع، ونُولد بها، فكلُّ نِعمةٍ بحدّ ذاتها قد وُهبت لك، وهي منحةٌ ربَّانيَّة تستحق التَّوقُّف طويلًا لشكر الله عليها قولًا وفعلًا!
وفي العلاقات الزَّوجية، وبعد أن يتجاوز الشَّريكان مرحلة الزَّواج الأولى، ويسبحان معًا في بحر الحياة المتلاطم يكون كلُّ واحدٍ منهما قد بنى تصورًا مثاليًا عن شريك حياته “المفترض”، وعن ردود أفعاله الـمُنتظرَة، والتي يُفترض أن يتقمَّصَها، وتزيد الصُّورة “الافتراضيَّة” تلك من متابعة نماذج المشاهير في مواقع التَّواصل، والتأثُّر بأنماط حياتهم، وطريقة عيشهم التي يعيشونها من أجل النَّاس بلا حقيقة في واقع أغلبهم! والنَّتيجة أن يبدأ كلُّ شريك بالتَّململ وأحيانًا التَّسخُّط من حياته مع شريكه، ويتعامى عن نقاط القوَّة عنده، ويبدأ في توسيع دائرة النَّواقص فيه، ورفض الحياة الزوجيَّة التي يعيشها بانتظار حياة “مُفترضة” كان يودُّ الحصول عليها!!
في حوار زوجةِ معدِّد تقول: أعيش مع نصف رجل، تمر ليلة كاملة لا أراه، ولربما في قادم الأيام يتزوج ثالثة ورابعة وأكون مع ثلث رجل أو ربع رجل!! إنها حياة تعيسة، لقد أفسدها بزواجه، وضيَّعها بغيابه!
لقد بَنت تلك الزَّوجة المسكينة صورة “رجل كامل” ينبغي أن يكون زوجًا لها، وجعلت أساس ذلك الكَمال كونه غير معدد، لقد نظرت للتَّعدد على أنه محور تقييم شريكها، متجاهلة أنَّ الحياة الزَّوجيَّة النَّاجحة لا تُقاس بزمن بقاء الزوج مع زوجته في البيت، فالزَّمن وحده لا يُصلح ما فسد من أخلاقِ الشَّريك أو سلوكه! والزَّمن لا يُعطي ما سَلَبُه البُخل، وما ضيَّعه الإهمال! فكم من زوجةٍ تفرَح بساعةٍ يبتعدُ فيها زوجُها عن البيت، وكم من زوجٍ يستبشر بغيابِ زوجته، فالحضورُ والغياب ثنائيَّةٌ تتعلَّق بمستوى الحبّ والتَّفاهم بين الزَّوجين، وهو معنويٌّ شعوريٌّ أكثر منه زمنيّ وقتيّ!
رجلٌ معدِّد يقضي وقته بين بيوته وعمله والقيام بمسؤولياته.. خيرٌ من رجلٍ مِضياع لوقته بين شِلَّة الاستراحة، وزملاء بطَّالين!
أنا لا أدعو هنا للتَّعدد أو غيره! لكنَّ حديثي هنا لأَصِل إلى أن الحياة عمومًا، والحياة الزوجيَّة خصوصًا خيارات وتنازلات، ولا توجد تلك الصُّورة الافتراضيَّة لحياة كاملة، والعاقلُ من قدَّر تلك النِّعم التي تحصَّل عليها، ونظر لحياته الزوجيَّة بصورةٍ كُليَّة شاملة، وابتعد عن تعظيم عُيوب شريكه وتضئِيل حسناته، فعاقبةُ ذلك الفعل هو تَسخُّطٌ دائم يُورث الحياة مرارة لا تنتهي، وبُؤسًا لا يتوقَّف، وسوادًا يلف البيت!
إنَّ جَمال الحياة ينطلق من النُّفوس الجميلة الراضية، والأرواحِ المتعالية السَّامقة، وقد صَدق من قال: إنه لا يُمكنك أن تُعطي حياتك مزيدًا من الأيام؛ لكنَّ بمقدورك أن تعطي أيامك مزيدًا من الحياة! والحُب أعذب الأنهار التي تُغذِّي حياتنا وتجعلها مليئة بالحيويَّة والإيجابيَّة، وصدق إيليا أبو ماضي حين أنشد:
أَيُّهَذا الشاكي وَما بِكَ داءٌ … كَيفَ تَغدو إِذا غَدَوتَ عَليلا
وَالَّذي نَفسُهُ بِغَيرِ جَمــالٍ … لا يَرى في الوُجود ِشَيئًا جَميلا
أَيُّهَذا الشَّاكي وَما بِكَ داءٌ … كُن جَميلاً تَرَ الوُجودَ جَميلا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*مؤلِّف، وباحث لغوي واجتماعي
masayed31@




