ورد في تراث العرب أن “أسوأ الناس خلقا من إذا غضب منك نسي فضلك، وأفشى سرك، ونسي عشرتك، وقال عنك ما ليس فيك”.. وهذا ما نسميه نكران الجميل، الذي يكون أشد وقعاً من السيف، وخيانة للشرف، والأمانة.
كما ورد أيضاً “كن من خمسة على حذر: من لئيم إذا أكرمته، وكريم إذا أهنته، وعاقل إذا أحرجته، وأحمق إذا مازجته، وفاجر إذا مازحته”، بينما يقول الشاعر:
(إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ** وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا).
ونقيض نقيصة نكران الجميل بالطبع.. الوفاء بالعهد وشكر صاحب الفضل فمن لا يشكر الناس، لا يشكر الله”، والوفاء بالعهد من القيم العظيمة التي ألزمنا بها المولى – عز وجل-، وجاءت بعض سور القران الكريم لتوضح ذلك بشكل صريح مثل قوله تعالى: ” وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ ٱللَّهِ إِذَا عَٰهَدتُّمْ وَلَا تَنقُضُواْ ٱلْأَيْمَٰنَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ ٱللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا ۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ” (النحل: 91)، وأيضًاً قوله تعالى: ” وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ۚ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ۖ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا ” (الإسراء: 34).
ومن القصص المروية من السنة النبوية المطهرة أنه ذات يوم قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لقد جاء مال البحرين).. والمقصود الزكاة التي تُجمع من أجل أهل البحرين، ثم انتقل الرسول – عليه الصلاة والسلام- إلى جوار ربه قبل أن تصل الأموال إلى البحرين.
ولما تولى الخليفة الراشد أبو بكر الصديق الخلافة، نادى في الناس: من كان له حاجة عند رسول الله يخبرنا بها، فأخبره أحدهم أن رسول الله وعد قبل موته بإعطاء المال إلى البحرين، فأعطاه الخليفة كيس من المال.. وعدها الرجل وقال أنها 500 دينار، فقام الخليفة بإعطائه ضعف القدر الذي كان متفقاً عليه مع الرسول الكريم، وقال أن هذا وفاء بوعد الرسول – عليه الصلاة والسلام-.
ويعتبر الوفاء من أخلاق العرب الأصيلة حتى فيما قبل الإسلام، حيث إن الرجل منهم كان ينطق بالكلمة فتصبح عهداً، عليه أن يفي به وإلا عرّض شرفه للتجريح، وكان الغدر معرة يتجافون عنها، وإذا ما غدر أحدهم رفعوا له لواءً بسوق عكاظ ليشهروا به.
كما كان من أنواع الوفاء: وفاء العربي لأهل عصبيته، فليس له أن يخالفهم مهما كانت درجة الخلاف معهم لأنه واحد منهم وما يصيبهم يصيبه، وقد عاب الناس الغادر وعيروا به، فإذا شتموا شخصاً، قالوا له: يا غُدَر.
ومن أشهر من ضُرب بوفائه المثل قبل الإسلام: عمير بن سلمى الحنفي، إذ استجار به رجل من بني عامر بن كلاب، وكانت معه امرأة جميلة، فرآها قرين بن سلمى الحنفي (أخو عمير)، وصار يتحدث إليها، فنهاها زوجها بعد أن علم فانتهت. فلما رأى قرين ذلك وثب على زوجها فقتله (وعمير غائب)، فأتى أخو المقتول قبر سلمى وعاذ به، فلما قدم عمير أخذ أخاه وأبى إلا قتله أو أن يعفو عنه جاره، وأبى أخو المقتول أخذ الدية ولو ضوعفت، فأخذ عندئذ عمير أخاه وقتله لغدره وفاءً لجاره.
وقد نرى في أيامنا الحالية بعضاً من هؤلاء الذين يتصفون بالغدر، ولا يحفظون المعروف، مدعيّن أنهم من أهل الوفاء – والوفاء منهم براء- وهو ما عبر عنه قديماً بعبقرية “إمرؤ القيس” حين قال:
إذا قلت هذا صاحب قد رضيته * وقرَّت به العين ان بدلت آخرا
كذلك جدي ما أصاحب صاحباً * من الناس إلا خانني وتغيرا
كذلك، قال “أوس بن حجر”:
وإني رأيت الناس إلا أقلهم * خفاف العهود يكثرون التنقٌّلا
وإذا كان الوفاء قبل الإسلام قد تجسد في: حفظ جوار – وعدم نقض حلف، أو أداء أمانة، فقد تحول في الإسلام إلى: حفظ للعهود، وأداء للذمم والأمانات – سواء أكانت للأصدقاء أم للأعدا-، وذلك استجابة لأوامر المولى – عز وجل-، وتأسياً بسيرة النبي الكريم – صلى الله عليه وسلم-، الذي قال – فيما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه-: “آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان” (متفق عليه).
وأيضاً قال – صلى الله عليه وسلم-: “إذا جمع الله بين الأولين والآخرين يوم القيامة، يرفع لكل غادر لواء يعرف به، فيقال هذه غدرة فلان” (رواه البخاري).
وقد نوه القرآن الكريم بسمو فضيلة الوفاء حين جعلها صفة للأنبياء فقال – عز وجل-: “وإبرَاهِيمَ الَذِي وفَّى” (النجم: 37)، كما قال – عز من قائل -: “واذكُر فِي الكِتَابِ إسمَاعِيلَ إنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوَعدِ وكَانَ رَسُولاً نَّبِياً” (مريم: 54). كما أدان الحق – تبارك وتعالى- الغدر والخيانة في قوله – تعالى-: “إنَّ اللَّهَ لا يُحِبٌّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُور” (الحج: 38).
ومن أمثلة وفاء الرسول الكريم -عليه الصلاة والسلام- (وهى كثيرة) موقفه يوم الفتح من عثمان بن طلحة.. حاجب الكعبة في الجاهلية، عندما طلب من علي -رضي الله عنه- ومفتاح الكعبة في يده أن يجمع لبني هاشم الحجابة مع السقاية فقال -صلى الله عليه وسلم-: “أين عثمان؟” فدُعي له فقال: “هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء”.
إذاً.. الوفاء بالعهود هو الضمان لبقاء عنصر الثقة في التعامل بين الناس، وبدون هذه الثقة لا يقوم مجتمع ولا تقوم إنسانية، فاللهم اجعلنا من أهل الوفاء، وابعد عنا الغدر وأهله.
التعليقات 1
1 pings
زائر
27/11/2022 في 12:43 ص[3] رابط التعليق
اللهم اجعلنا من أهل الوفاء