رغم شدة البرودة وهطول الأمطار الغزيرة التي حوّلت الأحساء إلى بحيرة إن لم يكن بحرا متلاطم الأمواج، أقام (ملتقى ابن عساكر) مساء يوم الجمعة 13 جمادى الآخرة 1444هـ 6 يناير 2023م فعاليته المميزة والمهمة (مدينة الجفر في التاريخ) التي قدّم من خلالها الباحث الأستاذ (عبد الله بن إبراهيم اليوسف) عرضا تاريخيا رائعا عن (مدينة الجفر) سلط الضوء فيه على الكثير من القضايا الكبيرة والحوادث المهمة المتعلقة بهذه المدينة الجميلة الواقعة شرق أحسائنا الأجمل، وذلك بحضور نخبة من المهتمين.
وقد افتتح قائد الفعالية ومديرها، الشاعر الأستاذ (جاسم محمد عساكر) هذه الفعالية التاريخية المهمة مرحبا بالضيوف الكرام الذين لبّوا الدعوة وشرّفوا الملتقى بحضورهم البهي رغم برودة الجو وأمطار السماء، ليلتقوا -كما يقول القائد في افتتاحه- بأستاذ عشق التاريخ، واستلهم الماضي، وتنقل بين صفحاته منقبا عن التراث وحضارة الآباء والأجداد، ليحدثهم عن جوهرة قرى ومدن الأحساء (مدينة الجفر الغالية)
بعد الافتتاح جاءت كلمة عضو الملتقى الكاتب الأستاذ (علي محمد عساكر) ليؤكد على ما للأحساء من عمق تاريخي ضارب بجذوره إلى الآماد البعيدة، وما لها من حضارة علمية وثقافية وأدبية وفنية وتراثية وعمرانية قديمة وعريقة، ومقدّما شكره وتقديره لجميع المؤرخين والباحثين وكل المهتمين بتاريخ الأحساء وحضارتها على جميع الأصعدة وفي مختلف الحقول والميادين، ومن بينهم ضيف الفعالية ونجمها المتألق الذي له اهتمامه الكبير بتاريخ الأحساء بصورة عامة، وتاريخ مدينة الجفر بصورة خاصة.
وكون الأحساء هي (ديوان العرب ومنجم الشعر والأدب) فما كان للشعر أن يغيب عن هذه الفعالية الرائعة، إذ اعتلى المنصة الشاعر الكبير الأستاذ جاسم الصحيح الذي هو -بحسب تعريف مدير الفعالية- (أحد معالم الجفر الأدبية والثقافية، وله معها ذكريات طفولة لا تشيخ) ليلقي قصيدة عصماء عن (القرية) مقدما لها بتأكيده على أن علاقته بالجفر ليست علاقة مادية، ليراها (مدينة) من خلال تطورها وتمدنها العمراني، وإنما هي علاقة وجدانية تجعله مضطرا لرؤيتها (قرية) صغيرة هادئة وادعة تماما كما كانت حين على ترابها وُلد، وبين سككها وأزقتها الضيقة نشأ وترعرع.
وفي تلك القصيدة خاطب الصحيح الجفر وغازلها بجميل قوله:
يا كتابَ الفَجرِ من كُتْبِ حياتي
آنَ أنْ نفتـحَ أُولـى الصفحـاتِ
لـم تَـلِدْني فيـكِ أُمِّـي وَحْـدَهـا
وَلَـدَتْـنِـي فـيـكِ كـلُّ الأمـهـاتِ
هـكـذا أنـتِ: كـيـانٌ تـلـتـقــي
فيهِ أرحامُ النساءِ المُحصَنَاتِ
وتَــظَـلِّـيــنَ بـقــرآنِ الـقُــرى
آيـةً لـلــبـاقـيـاتِ الصـالحـاتِ
وتُشِعِّـيـنَ عـلـى خـدِّ الـمـدى
شامةً تسطعُ في وجهِ الحياةِ
أَلْبَسَتْـكِ الأرضُ مِـمَّـا دَرَزَتْ
من فساتينِ النخيلِ الباسقاتِ
ولأن (جيم الجفر) علامة فارقة في أبنائها المبدعين فقد نقلتنا (جيم) جاسم عساكر من (جيم) جاسم الصحيح إلى (جيم) جابر الجميعة الذي شنّف هو الآخر أسماع الحاضرين بقصيدة رائعة عن الجفر كان من ضمن أبياتها الجميلة:
يا (جَفْرُ) يا معبرَ الرُكبانِ من (هجرٍ)
لـولاكِ مـا عـبـر الـركبـان أو ركـبــوا
بـكِ الـجـمَـال الـذي أرخـى سـدائـلــهُ
عليـكِ فـآسـاقـط الـليـمـون والـرطـبُ
غـزالـةُ الشِعـرِ فـي عينـيـكِ مرتعُـهـا
وَمِن سواقيكِ كُـل الخَلـقِ قـد شربـوا
وفـيـكِ (بـرزان) مـا أحـلـى تـألـقـهـا
كـأنهـا مـن جِنـانِ الـخُـلـدِ تـنـسـكـبُ
ومـن جـنـوبٍ بهـا يلـقـى شمـائـلهـا
إلى (الروايسِ) حيثُ التيـن والعنـبُ
قـومٌ إذا زرتـهـم تـلـقـى رحـابـتـهـم
الـعـلـم والـشِـعـر والأخـلاق والأدبُ
هذي هي (الجفر) يا من كنت تسألني
عن أصلِ معناي أو من أيـن أنتسـبُ؟
وبقصيدة الشاعر المتألق الأستاذ جابر الجميعة طوينا صفحة الشعر والأدب لنفتح صفحة التاريخ مع (ابن الجفر) الآخر، ضيف الفعالية وفارسها الباحث الأستاذ (عبد الله بن إبراهيم اليوسف) الذي هو من المهتمين بتاريخ الأحساء عموما وتاريخ بلدة الجفر على وجه الخصوص، وله في هذا المجال عدة بحوث ودراسات.
وكانت نقطة الانطلاق هي إبداء الضيف المحاضر لأسفه الشديد لعدم اهتمام المؤرخين عموما والأحسائيين خصوصا بمنطقة الأحساء رغم أهميتها التاريخية وحضارتها العريقة، مؤكدا أن أول كتاب أحسائي عن تاريخ الأحساء هو (تحفة المستفيد في تاريخ الأحساء القديم والجديد) لمؤلفه (محمد بن عبد الله بن عبد القادر الأنصاري الأحسائي) وطبعته الأولى سنة (1379هـ 1960م) أي أنه قبل (65 سنة) لا أكثر، وهو كتاب رغم ما له من قيمة وأهمية كونه الأول في بابه إلا أنه لا يخلو من ملحوظات.
وتدرّج المحاضر في حديثه عن الأحساء إلى أن وصل إلى صلب موضوعه (مدينة الجفر في التاريخ) ليثير الكثير من النقاط المهمة المتعلقة بالبحث والدراسة.
فالجفر بلدة قديمة جدا، ذات طبيعة زراعية، وعمق تاريخي، وأقدم وثيقة تاريخية تم ذكر الجفر فيها تعود إلى تاريخ 1086هـ
لها موقع استراتيجي كونها على طريق ميناء العقير القديم، وأشبه شيء بالقلب لما حولها من قرى مجاورة، مما جعلها محل اهتمام الدول المتعاقبة على حكم الأحساء.
وبعض معارك الدولة العيونية ضد القرامطة وقعت في قرية (السهلة) الواقعة جنوب غربي بلدة الجفر والتي إليها ينتسب (السهلاويون) وهي من القرى المندثرة.
وكانت الجفر أثناء حكم العثمانيين الأول للأحساء (957-1082هـ) وحكمهم الثاني (1288-1331هـ) محط اهتمامهم وعنايتهم لمعرفتهم بما لها من أهمية خاصة وموقع استراتيجي، ولذا لم يعتبروها مجرد (قرية) بقدر ما عدوها (ناحية) وهي من أقدم نواحي قضاء الهفوف، وتضم أكثر من (21) قرية، وتأتي في المرتبة الثانية بعد ناحية المبرز، وهي مرجع القرى الشرقية.
كما جعلها العثمانيون مركزا إداريا وعسكريا في شرق الأحساء، والحامية العسكرية فيها تتكون من كتيبة مكونة من خمسين خيالة عشرة من الضبطة الراجلة.
وفي العهد العثماني الأول كان في الجفر لواء يعرف باسم (لواء الجفر) يبعد قرابة (16كم) غربي الهفوف التي هي (مركز الإيالة) وكان يحيط بها -أعني الجفر- سور محصن، وتوجد فيها قلعة مستقلة يتخذها (أمير اللواء) مقراً له وللهيئة الإدارية العاملة معه، كما ترابط بها حامية اللواء، وبعض آثار هذه القلعة لا تزل موجودة إلى اليوم.
وهناك عدة أحداث مهمة متعلقة بمدينة الجفر في (عهد الدولة السعودية الأولى، والثانية، والثالثة) والتي منها نزول الملك عبد العزيز في الجفر وإرساله رسولين هما (مناور السبيعي وسعد بن سعيد) إلى (مساعد بن سويلم) في الأحساء، وذلك أثناء فتح الأحساء سنة (1331هـ)
كما لم يفت المحاضر الإشارة إلى معنى (الجفر) في المعاجم اللغوية، وبيان سبب تسمية (الجفر) بهذا الاسم، ووجود أكثر من قرية ومدينة تحمل الاسم نفسه، إضافة إلى إشارته إلى اشتباه بعض المؤرخين وخلطهم بين (الجفر) وبين (باب الجفر) وتصورهم أن الباب هو الجفر نفسها، مع أنه باب موجود في بعض قلاع الهفوف، وسمي بهذا الاسم نسبة إلى بلدة الجفر، لوقوع هذه القلعة في (ناحية الجفر) كما كانت تعرف وتسمى قديما.
إلى غير ذلك من الإثارات المثيرة والمهمة التي أثارها المحاضر الكريم في محاضرته القيمة التي شدت الجمهور الكريم ودفعته دفعا إلى التفاعل معها عن طريق الأسئلة والمداخلات الإثرائية.
ولعل من أهم ما تميّز به الباحث الأستاذ عبد الله في هذه الفعالية:
➢ الإلمام الكامل بالموضوع.
➢ القدرة الكبيرة على استحضار المعلومة عرضا وتحليلا.
➢ الحفظ العجيب للكثير من الحوادث والمواقع والأسماء والتواريخ.
➢ التوثيق للمادة بالمصادر والوثائق التاريخية.
وملتقى ابن عساكر يتقدم بجزيل الشكر والتقدير للباحث الجاد الأستاذ عبد الله بن إبراهيم اليوسف على هذا العطاء الغني والثري، كما يشد على يده وأيدي جميع الباحثين والمؤرخين والمهتمين بالأحساء وتاريخها وحضارتها ومعالمها وتراثها وكل ما يتعلق بها، ويدعو إلى التعاون معهم في كل ما من شأنه أن يذلل الصعاب لهم ويعينهم على القيام بهذه المسؤولية الكبيرة وأداء هذه الرسالة المقدسة تجاه أحسائنا الغالية، وتاريخها العظيم، وحضارتها العريقة.





