كانت الموسيقى الرافد الأول التي وجد الإنسان فيها حاجاته للتعبير عن أحاسيسه و وجدانه وكانت الحركات الجسمية كالرقص الرافد الثاني للتعبير عن معاناته و تطلعاته و كانت الصورة الرافد الأهم و الوسيلة الأوسع انتشارا و الأشمل تواصلا التي سمحت للإنسان بتجاوز نقصه التواصلي و ليعبر عن آماله و طموحاته و أفكاره و معتقداته و مفاهيمه و حتى عن أحزانه و أفراحه، فسبقت بذلك تاريخيا الكتابة التي هي الأخرى بمثابة الصورة الرمزية للحروف و الذبذبات الصوتية لتلعب دورا هاما في التواصل البشري و تطوره العلمي والمعرفي مند زمن الكهف إلى زمن الصورة الرقمية اليوم مسجلة بذلك في الصفحات التاريخية هموم الإنسانية و معاناتها منذ أن تشكل لديها الوعي بأهمية الصورة كأداة تعبيرية، علمية و معرفية، جامعة بمفرداتها و مفاهيمها و معانيها حقيقة الوجود وأبعاده الرمزية،متخطية كل الحواجز الزمنية و المكانية و الاختلافات اللغوية و العقدية و الفكرية والإيديولوجية التي شكلت عوائق مصطنعة أمام التواصل البشري ، لذلك يمكننا القول بان الصورة الفوتوغرافية قد أصبحت اليوم أداة تواصلية لا يمكن الاستغناء عنها. فمن اللحظة الرومانسية أو الواقعية عبر ومضات ضوئية تخليدا للذكرى السعيدة أو لحدث الجلل في تاريخ الأفراد و الشعوب، إلى أداة تعبيرية اكتسحت جميع المساحات العمرانية و الفضاءات العمومية .
لذلك نجد الفنانة التشكيلة “امال بنقريش” تناولت هذا الموضوع بكل دقة للصورة الفتوغرافية بتحويلها من فضاء مغلق لفضاء مفتوح الذي عرف بالفضاء العمومي الحاضن الطبيعي للتفاعلات الاجتماعية و للحراك السياسي والثورات عبر التاريخ تطورا كبيرا من حيث الشكل و الوظيفة و من حيث التحكم و التوجيه في معرضها الشخصي تحت عنوان “La démocratisation visuelle dans l’espace urbain ” بالمركب الثقافي نيابوليس بنابل من واحد شهر ستة الى اواخره.
ومن حيث التأثر و التأثير بما يحدث فيه من الأحداث العامة ، و أمام أهمية هذا الفضاء و هيكلته عبر التاريخ كان البد له أن يلعب دورا هاما و محددا في تطور المدينة و بناءها اقتصاديا و اجتماعيا و سياسيا، لذلك تحول هدا الأخير في سياق تاريخي إلى بؤر للتوترات الاجتماعية و السياسية ، بل إلى ساحة مناورات عسكرية بين السلطة و الشعوب الثائرة فكانت الصور الفوتوغرافية أكثر هده التعبيرات حضورا و أشد تأثيرا و عمقا.
لقد أخذت الصورة مند ولادتها أنماط عديدة و متعددة فمن بسيطة إلى مركبة، و من ثنائية الأبعاد إلى ثلاثية الابعاد بل رباعية مع الصورة الرقمية فاكتسحت بدلك ميادين معرفية ومجالات فنية جديدة و متعددة لم يعرفها الإنسان من قبل.
حيث تحول التفاعل مع الصورة من التعبير الواقعي réalisme le المحسوس إلى التفاعل الانطباعي المفعم بالأحاسيس impressionisme’l إلى التفاعل السريالي lesurréalisme الذي تجاوز المحسوس نحو اللمح سوس إلى التحليل ألتفكيكي le déconstructiviste الذي هدم كل القيم الفنية المكتسبة للصورة و قلب موازينها و قيمها المكتسبة عبر التاريخ ليفتح آفاقا رحبة للتعبير و التواصل و التعارف البشري كما لم تشهده البشرية من قبل. فمن الإيحاءات الفنية الجمالية الرومانسية إلى الخطابات الواقعية الشديدة الوطأة و الحضور؛ من اللمسات الناعمة للفرشاة الملطخة بالألوان التي شكلت اللوحة الفنية الإبداعية إلى الومضات الضوئية و الصور الفوتوغرافية المتحركة و المركبة التي سجلت اللحظة التاريخية للحدث كما يدركها الفنان و يتولها على المشهد السياسي و الإقليمي و ما تلعبه من خلال العالم المرئي المحايد منه و الموجه من تأثير كبير في ما يحدث في المنطقة العربية بعد سقوط أنظمة منها و بروز أخرى إلى السطح لتختفي من جديد من خلال الصورة و الصورة المضادة لذلك و من خلال معالجتنا لهده الإشكالية سنتطرق إلى الصورة الفوتوغرافية في الفضاء العام و إلى إبعادها الفنية و التقنية و مجالاتها التعبيرية و الرمزية المتشبعة ال سيما في المجال السياسي الذي استوعب الصورة و استوعبته ليشكل بذلك كتلة صلبة و أداة فعالة في تكييف الصراعات الفكرية و الإيديولوجية و توجيهها و في رصد الرهانات السياسية و أثرها وتبعاتها حاضرا و مستقبلا.
إن الطريق إلى معالجة الصورة الفوتوغرافية و الفضاء العام و رصد رهاناتها السياسية ضمن الإشكالية المطروحة يستوجب التفاعل على ان الصورة الفوتوغرافية الواعية و الموجهة قادرة على استيعاب الواقع السياسي الذي أنتجها ضمن حراكه السياسي و فضائه العام لتشكل معه كتلة صلبة و محورا علميا و معرفيا منه لفهم الرهانات السياسية التي تتركها هده الصورة لدى المتلقي في طريقها لتغيير الواقع.