يبدأ الإنسان من بيته طفلاً متربياً، ثم في مدرسته متعلماً، ثم في وظيفته متدرباً، ثم لعمله متقناً، ثم يكون في تخصصه خبرة ومرجعاً، ثم يرجع إلى بيته متقاعداً، ليترجل الفارس عن فرسه، ويتخلى القائد عن ميدان عمله؛ ليترك المجال للأجيال الناشئة، وهكذا دورة الحياة، حل فارتحال.
فأن تترك عملك باختيارك، وفي صحتك، لتكون بين زوجك وأولادك فهذه نعمة عظيمة، ومنّة جسيمة، أسأل الله تعالى أن يرزقك شكرَها، وأن يبلغ الجميعَ إياها.
وبعد هذه المسيرة المباركة، هذه سبع وقفات للمتقاعد الكريم:
الوقفة الأولى: يملك المتقاعد وقتاً متسعاً، وفراغاً كبيراً، فالحصيف من يجعل لنفسه برامج متنوعة؛ لكيلا يَضجر من فراغه، ولا يُضجر من معه وحوله، ومن أبرز البرامج: زيارة الأهل والأقارب، واللقاء بالزميل والصاحب، وممارسة الرياضة، والتزود من الثقافة والقراءة، والتأليف في التخصص، وكتابة السيرة الذاتية، والذكريات الجميلة، وغير ذلك مما لا يخفى.
ولا يكن فراغُك مدعاةً للإثقال على غيرك من أهل وأصحاب، أو سبباً لزيادة الحساسية لديك، بل تغافل عما يحسن التغافل عنه، ولا تكثر العتاب أو المحاسبة، بل كن خفيفَ الظل، سمحَ النفس، طلقَ المحيّا، سهلَ التعامل، طيبَ المعشر، فبذلك تكسب ودّ من حولك، ويأنس بك من يحبك، فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((ألا أخبركم بمن يحرُمُ على النار أو بمن تحرم عليه النار، على كل قريبٍ هيِّنٍ سهْلٍ)) رواه الترمذي في سننه، (2488) وحسنه.
الوقفة الثانية: لا تنشغل بما لا يعنيك من أحوال الناس الخاصة، فهذه مضيعة للوقت، مشغلة للبال، مفرِّقة بين الأحبة، وتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)) رواه الترمذي في سننه، (2317) وصححه الألباني.
الوقفة الثالثة: أيها المتقاعد الكريم، أنت كفاءة إدارية، وخبرة تربوية، فلا تحرم المجتمعَ من خبراتك، فمراكز التنمية الاجتماعية، والجمعيات غير الربحية، وغيرها كثير.. بحاجة إليك، فلا تبخل عليهم بما لديك من معلومات، وما تتميز به خبرات.
الوقفة الرابعة: إن الأولادَ، والأحفادَ (أولاد الابن) والأسباطَ (أولاد البنت) بحاجةٍ ماسَّةٍ إلى حكمة الآباء والأجداد وتوجيههم، والاستفادة من تجارب الحياة، وكيفية التعامل مع الموافِق والمخالِف، وحسن التصرف في الأموال والدراهم، كل ذلك وغيرها هم في أمسِّ الحاجة إليها، فيا لها من لحظات جميلة أن يتعاهد الجدُّ أحفادَه بالمواقف الهادفة، والنصائح الغالية، والقصص النبيلة، والخبرات الثمينة! فاغتنم اجتماعهم لتحكي لهم شيئاً من سيرتك العطرة، ومواقفك الجميلة، وماضيك الجميل المشرق؛ ليكون جسراً يربط أجيال الغد برجال الأمس.
الوقفة الخامسة: اختر الرفقة الطيبة الصالحة، التي تُعينك على الخير وتدلك عليه، وأقترح عليك أن تجتمع بزملائك وأصدقائك في مجلس لقراءة الكتب النافعة في: التفسير، والحديث، والتوحيد، والتاريخ، والأدب، والتربية، أو غيرها مما هو مفيد نافع، فيزداد إيمانك، وتتوسع ثقافتك، وتعلو همتك.
وتجنب مجالس الغيبة، والنميمة، والقيل والقال؛ فليس وراءها إلا ضياع الحسنات، ولا يعود المرء منهم إلا بالكآبة وضيق الصدر مهما ظهر منهم الأنس أو الفرح، وتذكر حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثَل الجليس الصالح والسوء، كحاملِ المسك ونافخِ الكير، فحامل المسك: إما أن يُحذِيَك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير: إما أن يحرقَ ثيابَك، وإما أن تجد ريحاً خبيثة)) رواه البخاري في صحيحه، (5534).
الوقفة السادسة: قال الله تعالى: ﵟفَإِذَا فَرَغۡتَ فَٱنصَبۡ ٧ﵞ [الشرح:7]. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: "أي: إذا فرغتَ من أمور الدنيا وأشغالها وقطعت علائقها، فانصبْ في العبادة، وقم إليها نشيطاً فارغَ البال، وأخلصْ لربك النيّة والرغبة" تفسير ابن كثير، (8/433)
فما أجمل أن نجعل للآخرة نصيباً أكبر، وحظاً أوفر من أوقاتنا وبرامجنا! من خلال التزود من الصالحات، نوافل وواجبات، فخذ قرارك وحدّد لنفسك ورْداً يومياً؛ لتختم القرآنَ الكريم في أيام معدودة، وتنال الأجور الكثيرة، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: الٓمٓ حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)) رواه الترمذي في سننه، (2910) وصححه الألباني، وأَكثِر من ذكرِ الله تعالى، والصلاة على نبيِّه صلى الله عليه وسلم، ومعاهدة أذكار الصباح والمساء؛ لتحققَ أمر الله تعالى للمؤمنين بقوله: ﵟيَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ ذِكۡرٗا كَثِيرٗا ٤١ﵞ [الأحزاب: 41] وما أحسن أن تكثرَ من صلوات النوافل! فعن معدان بن أبي طلحة اليعمري، قال: لقيت ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: أخبرني بعمل أعمله يدخلني الله به الجنة؟ أو قال قلت: بأحب الأعمال إلى الله، فسكت، ثم سألته فسكت، ثم سألته الثالثة فقال: سألت عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((عليك بكثرة السجود لله، فإنك لا تسجد لله سجدة، إلا رفعك الله بها درجة، وحط عنك بها خطيئة)) رواه مسلم في صحيحه، (488)، وعن ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه قال: ((كنتُ أبيتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيتُه بوَضوئه وحاجته فقال لي: سل، فقلتُ: أسألك مرافقتَك في الجنة، قال: أو غير ذلك، قلت: هو ذاك، قال: فأعنِّي على نفسك بكثرة السجود)) رواه مسلم في صحيحه، (489) ومن أهم النوافل: السنن الرواتب، وصلاة الليل، وسنة الضحى، وغيرها.
وإن فضُل من مالك شيءٌ فلا تحرم نفسك الإحسانَ إلى والديك فتصلهم بالهبة والهدية إن كانوا أحياء، والصدقة عنهم إن كانوا أمواتاً، وتعاهد بالمعروف والصلةِ أقاربَك، وذوي الحاجة من أصدقائك وجيرانك، كما لا تنس دعم حلق القرآن الكريم، وجمعيات البر والدعوة، وتوجيه الأسرة؛ لتبرهنَ على صدقِ إيمانك، وعظيمِ توكلك، وحسنِ ظنك بخالقك، وتجدها ذخراً لك عند لقاء ربك، فعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «... والصدقة برهان..." رواه مسلم في صحيحه، (223) قال الحافظ النووي رحمه الله تعالى: "الصدقة حجة على إيمان فاعلها فإن المنافق يمتنع منها؛ لكونه لا يعتقدها، فمن تصدق استُدِلَّ بصدقته على صدق إيمانه" شرح النووي على مسلم (3/101) وقال رحمه الله تعالى: "وسميت صدقةً؛ لأنها دليل لتصديق صاحبِها، وصحة إيمانه بظاهره وباطنه" شرح النووي على مسلم (7/48).
وعليك بصيام النافلة، ولا سيما في أيام الشتاء فهو الغنيمة الباردة، كما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: "ألا أدلكم على الغنيمة الباردة قال: قلنا وما ذلك يا أبا هريرة؟ قال: الصوم في الشتاء" رواه البيهقي في السنن الكبرى، (4/489) وقال: "هذا موقوف".
وإن كنتَ في صحة في جسمك، وعافية في بدنك، فلا تحرم نفسَك زيارةَ بيت الله الحرام، وزيارةَ مسجد رسوله صلى الله عليه وسلم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)) رواه البخاري في صحيحه، (1773) وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه، إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة)) رواه أحمد في مسند، (14694). وصحح إسنادَه محققُ المسند، (23/46). طبعة الرسالة.
الوقفة السابعة والأخيرة: عليك بالدعاء لا سيما في أوقات استجابة الدعاء.. فادع لنفسك بالصحة والعافية وحسن الخاتمة، ولوالديك بالرحمة والمغفرة، ولذريتك بالصلاح والهداية، ولولاة أمورنا خاصة وسائر ولاة أمور المسلمين عامة بالتوفيق والسداد، وللإسلام أن يرفعَ اللهُ شأنَه ويعزَّ أهلَه.. اللهم أحسنْ خاتمتنا في الأمور كلها، وأجرْنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
أ.د. عمر بن عبدالعزيز السعيد
أستاذ الفقه بكلية الشريعة، جامعة الملك فيصل بالأحساء