في بداياتي الصحفية الأولى داخل أروقة جريدة النـدوة ، كنت أتنقل بين صفحات الصحف قارئا لما تحمله من مواد صحفية وأدبية وفنية ، ولم تكن لدي أي ميول نحو الأخبار والأنشطة الرياضية رغم سعي الأستاذ / فوزي خياط ـ يرحمه الله ـ لجذبي نحوها ، وكان المحلق الأدبي بجريدة الندوة ، وملحق الأربعاء بجريدة المدينة وملحق الجزيرة الثقافي من أكثر الملاحق الأدبية التي تجذبني لقرأتها .
ومن خلال هذه الملاحق عرفت أدباء وشعراء سعوديون وعرب ، وتشرفت بالالتقاء ببعضهم والحديث معهم ، وكان من بين هؤلاء الشاعر الدكتور عبدالله محمد صالح باشراحيل ، أحد أبرز الشعراء السعوديين في العصر الحديث ، والذي ازدادت متابعتي له حينما بدأ نشر قصائده بالصفحة الأخيرة من جريدة النــدوة ، غير أني لم أتشرف بالالتقاء به إلا في مناسبات عامة ، إذ لم أكن حينها من حضور أنشطة وفعاليات منتدى الشيخ محمد صالح باشراحيل الثقافي، الذي أسسه والده ـ يرحمه الله ـ .
وما جعلني أتطرق للحديث عنه اليوم ، ليس لديوان شعري أصدره ، أو كتاب ألفه ، أو قصيدة نظمها ، لكنني تذكرت قوله : " أنا أغنى أغنياء العالم وأغنى من بل غيست ليس بالمال ولكن بو جود هؤلاء الحضور من الأدباء والمثقفين " ، فهذه المقولة وإن مثلت مصدر فخر له فأصبح يرددها في أمسيات منتدى باشراحيل الثقافي ، فإن مضمونها يحمل رسالة قوية لا يدركها إلا من فقد محبة الناس الحقيقية ، كما أنها تؤكد بأن المال ليس مقياسا لمحبة الناس لك ، فبه يمكنك شراء ما تريد إلا محبة الآخرين لك .
وبالعودة لشخصية الدكتور عبدالله باشراحيل ، فإننا نقف أمام شاعر بدأ حياته الشعرية قارئا ومستمعا ، لا ينظر لماله ولا مكانته الاجتماعية بقدر نظرته لردود فعل الآخرين لأعماله ، وفي ديوانه الأول " معذبتي " الذي صدر عام 1978م ، وضم القصائد التالية : " فارس الامجاد ، رائعة القوام ، الحب والحياة ، لبنى ، جمال الحياة ، معذبتي ، احقا ، وعود ، خواطر ، جراح القلب ، هجرة اليوم ، ياأم عبد الله ، الحياة ، مهد الجراح ، رجاءانا والليل ، شوقي امير الشعراء ، عيد ميلاد صديق ، حنين ، عزاء الاحبة ، إيه يا نسر" ، وقف كشاعر مترقب ما يحمله الشعراء والنقاد له ، باحثا عن نقد يحسن أعماله القادمة ، لا مديح يزرع الغرور به ، فوجد أن كلمات الثناء قد جاءت من كبار الشعراء والنقاد ، ومنهم الشاعر حسين سرحان، والدكتور/محمد مصطفى هدارة الذي قال : نجد في ديوان (معذبتي) تناغم ذاتية الشاعر مع ريق العمر وزهو الشباب.
وهنا أدرك الدكتور عبدالله باشراحيل أنه أمام امتحان صعب ، فالثناء الذي ناله يجعله مطالبا بتقديم الأفضل مع قادم الأيام ، يترجم المشاعر بالكلمات ، وحرك الإحساس ، وايقظ الأعين ، وبرز ذلك في قصيدته " أمــاه وَداعــاً " التي كتبها بعد وفاة والدته ، فكانت وأحدة من أجمل القصائد التي حركت الإحساس وأثارت الأشجان ، إذ يقول فيها :
أشدُ الحزنِ ماسكنَ الفؤادا
وأكثرَ هَمَّ صاحِبهِ وزادا
رحيلٌ أم فِراقٌ أم وداعٌ
فإنَّ غيابَ من عَزَّ افتِقادا
وما الدنيا وإن طابت لِحَيّ
سوى الأرماسِ والتُّربِ الوسادا
يُحَدِّثُني الحنينُ إليك أُمِّي
حنينُ الإبنِ كم كان اعتيادا
فأيُّ الذكرياتِ وأنتِ فيها
وأيُّ الحبِّ في عينيَّ نادا
ولو كان الفداءُ بمستطاعٍ
لكان القلبُ عنكِ اليوم فادى
ولكنَّ المقادرَ أعجزتني
وتمنعُني وإن كنتُ النجادا
وأنظرُ صمتَ جسمِكِ مُستنيماً
وقد أسلمتِ للعينِ الرُّقادا
تَحَجَّرَتِ المدامعُ في عيوني
وقلبي بالدَّمِ المحرورِ جادا
أيا (مصباحُ) والطُّهرُ المسجَّى
وقرآناً بصوتكِ كم تصادى
حفظتِ اللهَ والإسلامَ حقاً
وصنتِ النفسَ هدياً واعتدادا
وابقيتِ المكارمَ سامقات
وشاهِدُها الذي يجزي العبادا
وَأنَّكِ مابخلتِ ولم تضُني
وكم أجزلتِ بالبذل المدادا
فكنت اليسرَ في عُسرِ البرايا
وكان الطيبُ قلبِكِ والودادا
رِقاباً قد فَككتِ تكادُ تود
فكنتِ ملاذَ نجدةِ من تنادى
وقد حُزتِ المحاسنَ مُشرقاتٍ
ووجهُكِ نورُهُ غطَّى المهادا
قليلٌ في التُقاةِ مثيلُ أُمي
سلوا عنها الأقاربَ والبِعادا
(فيا مصباحُنا)عند الدياجي
بِنورِ الله نوَّرتِ السَّوادا
وإن رضاكِ يا أمَّاهُ خيرٌ
رضى الأبناءِ للآباءِ زادا
فيا أمَّاهُ ليس الموتَ إلَّا
حياةٌ للذي نَظَرَ المَعَادَا
وأزلفتِ الجنانُ مورِّداتٍ
وقد نِلتِ السعادةَ والمرادا
حَباكِ اللهُ يا أُمِّي نعيماً
حِبَاءً منهُ يستبِقُ النّفَادا
فجد يا خالقَ الدنيا عليها
فأنت البَرُّ قد كنتَ الجوادا
ونسألُكَ الثباتَ لها ونرجوا
لها الغفرانَ فهيْ لك انقيادا
رحِيمٌ أنت فارحمها ومن ذا
سيرحمُ غيركَ اللهُ العِبادا
وأغسِلها بماء الثلج عطرا
وألبسها الرَّبيعَ وقد تهادى
أنِلها جنَّة الفردوسِ هبها
فأنتَ الله يُنعمُ إن أرادا
لقد عاشت تحبُّكَ يا إلهي
وأنتَ لمن تُحبُّ نَدَاكَ هادى
فصلِّ على نبيك في البرايا
إلهي من بنورِ الوحي سادا
وقبل الختام أقول إن حكمة " كنز الرجال ولا كنوز الصناديق المال يفنى والنشاما تجيبه " ، لم تكن وليدة صدفة عابرة ، لكنها حملت الكثير من الحكم والعبر ، فمهما حملت من كنوز وأموال فإنها لا تمثل مقياسا لمحبة الآخرين لك .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
للتواصل ahmad.s.a@hotmail.com