صمت وقور خيم على زوار مقهى “هارلو” في مكة المكرمة بحي الرصيفة، تصاعدت الدهشة تشوقاً من أعين الحضور وهي تترقب تجوالاً فخماً بين طيات السحاب، فقد التقى شغف الكتابة بالملاحة الجوية في اقتران فريد، ونموذج أقل ما يوصف به هو “الإبداع” في ليلة صيفية من ليالي مكة المتفردة.
يحلق الكاتب والقاص و”الكابتن” بالحضور بعيداً في سماوات الابداع ضمن لقاء مليء بالخيال والحماس والتطلعات، مكتسي بالرصانة والتأملات العميقة التي يمكننا أن نلخصها بمفهوم “أدب الرحلات”.
كان الحضور ملتفين ومجتمعين في تمام الساعة الثامنة والنصف، ممسكين بأكواب قهوتهم المفضلة، ويحتضن البعض منهم في حجره نسخة من كتاب “أربعون ألف قدم فوق سطح الماء” للكاتب الطيار غسان حامد عمر الذي استضافته الإعلامية رزان السندي في مقهى “هارلو” للحديث عن مؤلفه الجديد، وعن جمعه لشغف الطيران والكتابة في آن.
يؤكدا الكابتن غسان حامد أن أسرته كانت بمثابة البيئة الخصبة، لأنها كانت عاشقة للأدب والثقافة ممتلئة بفرص حرية التعبير والتساؤل، معتبراً إياها أول من أذكى شعلة الشغف داخله. فالجميع كان يقرأ والكل كان يكتب. ومازال يذكر دفتره الأزرق الذي احتوى طلائع ابداعه. لينتقل بالحضور إلى ذكريات وجدت في قلبه مستقراً ولم تغادره أبداً، عندما وصلته الموافقة على نشر أحدى مقالاته في جريدة المستقبل. وأخرى حينما كتب عنه أحد الكتاب البارعين متلمساً فيه نموذجاً فريداً يمارس “أدب الرحلات” برشاقة وتلقائية.
وأشاد بالجهود الوطنية التي تقدمها المملكة العربية السعودية لتعزيز حركة الثقافة والأدب والنشر، ودعا كل الكتاب الطموحين إلى اقتناص هذه الجهود والتسهيلات لنشر ابداعاتهم وإثراء إنتاج، وطنهم الثقافي والعلمي إقليمياً وعالمياً. وعندما سُئل عن نصيحته للكتّاب المبتدئين حذرهم من أن يكونوا أعداءً لأنفسهم، وأن يتقبلوا حقيقة أن النسخ الأولى لا ينبغي أن تكون كاملة ورائعة.
وتابع:” يمكننا أن تجاوز المعيقات الخارجية مهما بلغ تعقيدها، لكن إن تركنا مخاوفنا تسيطر علينا فسنخلق معوقات داخلية كبيرة تصل إلى درجة العداوة، نعم ستصبح عدواً لنفسك، تنتقدها ولا تنقدها، تحبطها ولا تطورها. مازلت أذكر بداياتي ومازلت أذكر مشاعري قبل إطلاق أي عمل لكن في كل مرة أذكر نفسي بأن الكمال لله تعالى وحده وأن نجاح أي شيء وتميزه منوط بالمثابرة والتكرار”
وازداد تفاعل الحضور حينما تطرق الحوار إلى إمكانية قيادة المرأة للطيران حيث أكد الكابتن حامد أن ليس هناك ما يمنع المرأة من دخول هذا المجال، وأن معدلات دخول المرأة مجال الطيران كقائد للطائرة مازالت قليلة عالمياً. وأكد المهندس عبدالله الشهراني مدير عام الاتصال المؤسسي والشؤون الإعلامية على ما ذكره زميله الكابتن حامد وأضاف:” مجال الطيران بكافة تشعباته يعد ثقيلاً ومليء بالمسؤوليات الضخمة التي لا تناسب طبيعة المرأة أو ما تهواه المرأة بشكل عام، بالإضافة للمسؤوليات الأسرية المحورية التي تتطلب حضورها الكامل، وربما هذا يفسر الإقبال على المجالات المهنية المتعلقة بالطيران سواء كقائد طائرة، أم مهندس طيران أو غيرها يعتبر ضعيف للأسف. لكن المجال مفتوح أمام المرأة إن رغبت في الالتحاق، وأنا تأكد بأنها ستجد دعماً كبيراً اليوم في عصر الرؤية السديدة التي تدعم كافة أفراد المجتمع وتعنى بملف تمكين المرأة أشد العناية.”
صحيح أن أصوات موسيقى الجاز كانت قد سكتت عند بداية اللقاء، لكن حل محلها عزف أدبي من نوع فريد، شجع الحضور على التعبير عن آرائهم في اتجاهات الأدب المعاصرة، ونصائحه للمبتدئين، كما ألقوا العديد من الأسئلة على الضيف عن الكتاب وعن تفاصيل مهنته وارتباطها بالكتابة والأدب.
وأختتم الحضور الجلسة الأدبية الثرية التي انتهت في تمام الساعة العاشرة والنصف مساءً، باصطفافهم لالتقاط الصور التذكارية مع الكاتب، وتوقيع نسخهم من كتابيه أربعون ألف قدم فوق سطح الماء، ومسافر بلا امتعة.
لاقى اللقاء الذي أتى ضمن مبادرة الشريك الأدبي التي أطلقتها هيئة الأدب والنشر والترجمة لتصنع من المقاهي مراكزاً حيوية لبث الثقافة والأدب، وتحويل الزيارة التقليدية للمقهى إلى تجربة ثقافية فريدة، كما تهدف المبادرة إلى الترويج للأعمال الأدبية بشكل مبتكر وقريب من المجتمع، بما يعزز الوعي الاجتماعي ويساهم في خلق جيل مثقف ومتسع.