استيقظت في غرفة المستشفى و كانت زوجة ” أدهم ” بجواري فطلبت منها الماء على الفور ثم سألتها ما الذي جاء بي إلى هنا!؟ من المفترض أكون في البيت الآن !!
ردت ” مودة ” اهدئي يا عزيزتي أنهرتي فور سماعك لخبر عمي و أتى بك ” أدهم ” إلى هنا ولان مراسم العزاء قائمة تحتم علي البقاء معك والاطمئنان على صحتك عوضا عن عمتي و لا تنسي أنها دخلت في فترة الحداد ولا يجوز لها الخروج من المنزل .
قلت : كم بقيت هنا ؟
أجابت : ثلاث أيام هذا اليوم الرابع .
قلت : وهل دفن أبي ؟
أجابت : نعم ، يا روعه عمي توفي و أنت في بريطانيا ولم يريد أهلك إفزاعك ولتهوين الخبر عليك قال لك ” عمر ” بأن المرض اشتد عليه وتم تأجيل الدفن حتى تتمكني من رؤيته وتوديعه لكنك لم تتحملي الخبر وفقدت وعيك فدفنوه من يومك الأول في المستشفى ، سكتت قليلا وامتلأت عيناها بالدموع ثم استرسلت قائلة أنت مؤمنة وادعي له بالرحمة و الثبات وكوني قويه لان الجميع يحتاجك لأنك دانة الأسرة ، اقتربت وبيدها محارم بيضاء مسحت بها دموعي وضمتني إلى صدرها ومسحت بيدها الناعمة على شعري ، كان الوقت حينها في منتصف الليل أو قبيل ذلك بقليل … لا يسمح عادة بالزيارة في مثل هذا التوقيت خاصة في الأقسام النسائية للخصوصية طبعا لكن بشكل استثنائي سمح لأدهم بالدخول وذلك تعاطفا من الإدارة لأن أبي كان أحد أعضائها أثناء عمله في المستشفى ، دخل ” أدهم ” ومعه وجبة عشاء وبعض الشوكولاتة وعصير الرمان المحبب لدي وفور رؤيتي للعصير بكيت بشدة فقد كان والدي يحضره لي من متجر منتجات مزرعته العضوية …
وضع ” أدهم ” الحاجيات على الطاولة وأسرع إلي ضمني بقوة ، بدأنا بنوبة بكاء سويا وبكل هدوء انسحبت زوجته إلى الخارج احتراما لحساسة الموقف.
ظل ” أدهم ” معنا إلى صباح اليوم التالي للقيام بإجراءات و توقيع أوراق الخروج من المستشفى لان الدكتور منحني رخصة العودة للمنزل . جمعت ” مودة ” الأغراض الموجودة بالغرفة استعدادا للخروج .
بين دموع و أحزان وقلة تغذيه ونوم مضت أسبوعان على وفاة حبيبي الغالي وبينما أنا في غرفتي جاء ” عمر ” و قال : يا دكتورة روعه الحي أبقى من الميت وكان الدكتور أحمد يحلم في اليوم الذي ستصبحين فيه دكتورة ، أعلم أن الأمر صعب عليك ولكن تذكري بأنه أرسل إليك إنذار بالفصل للتغيب ولو كان الوالد حي لن يرضى بهذا الوضع فقومي واستجمعي قواك لتقفي وبداية حجزت لك رحلة بعد أربع أيام وسيذهب معك ” أسامة ” لان زوجته كما تعلمين في فترة النفاس وهي في زيارة أهلها مبدئا سيظل معك لشهرين تقريبا و أنا سأنتقل مع زوجتي و أبنائي للعيش هنا مع الوالدة ولن نتركها أبدا … أدمعت عيناه وسكت قليلا ثم قال أرجوك حققي حلمه يا روعه ولا تستسلمي للحزن لطالما رباك على القوة و المواجهة أهديه الحلم في قبره و أسعديه ، مد يده في هذه اللحظة و أمسك بكلتا يداي وربت عليهم و ابتسم ثم وقف وخرج من الغرفة دون أن أنطق بكلمة . فكرت في حديثه طوال الليل وفي صباح اليوم التالي على مائدة الفطور قلت له أتعلم أمرا يا عمر أنت بالأصل بعد كلامك ليلة البارحة ذكرتني بحقائبي التي نسيت أخذها من المطار يوم وفاة أبي صحيح أنها لا تحتوي على أغراض مهمه ثم قلت بنبرة تعجب : بالمناسبة أين هاتفي الخلوي !! نظر إلى جمع من على الطاولة و كأنني فاقدة للعقل ثم ابتسم ” مالك ” ابن عمر الأوسط وقال : عمتي اسبوعان مرت لم أسمع صوتك حتى ظننتك فقدت القدرة على الكلام . نظرت جنتي ( أمي ) وقالت : بما أنها بدأت تسأل عن هاتفها عادت روعه إلينا و قالت أيضا صغيرتي ( دائما ما كانت تناديني بها ) هاتفك فقد في المستشفى فأشترى لك ” أدهم ” لك أخر بنفس الرقم القديم ستجديه على طاولة التزيين في غرفتي والأهم الآن أبدئي بتجهيز نفسك للعودة يا ابنتي للجامعة ثم ابتسمت وبعدها ضحكت وقالت نسيت أن حقائبك في المطار يلا تأخذينها وقت رحلتك .
انتهى الحديث هنا ثم صعدت لغرفة جنتي و أخذت الهاتف الجديد وعلى الفور بدأت بالتواصل مع أصدقاء الدراسة و المركز الإسلامي استقبلت التعازي و أخذت بعض ما فاتني من المحاضرات و الدروس وفي المساء أخذت حمام ساخن وخلدت للنوم . بدأت بتهيئة نفسي للعودة ذهنيا و نفسيا ، اشتريت بعض الأغراض التي تنقصني في اليومين السابقين للرحلة أما في يوم الرحلة أخذني ” أسامة ” للفطور في أحد المطاعم القريبة من المطار بعد توديعي لجنتي وعمر و أبنائه وزوجته بين دموع و أحضان وقبل .
انتظرنا موعد إقلاع الطائرة ليس بالوقت الطويل ففور دخولنا للمطار انشغلنا بالبحث عن حقائبي القديمة حتى وجدناها في أحد مستودعات المطار وأخبرنا الموظف المسئول أنه اتصل على هاتفي المحمول أكثر من مرة لكن الهاتف مغلق دائما . بعد استلامها دخلنا لصالة المغادرة ومن أول نداء للرحلة هممنا بجمع الأمتعة الخفيفة متوجهين إلى بوابة الخروج ، عند دخولنا للطائرة دلتنا المضيفة على مقاعدنا وفور وصولنا جلست أنا ووضع ” أسامة ” حقيبته في الخزانة المخصصة ثم جلس على مقعده وقال : بسم الله توكلنا على الله وأمسك بيدي مبتسما .
مر وقت الرحلة ونحن في صمت عميق لم نتحدث قط سوى كلمات قليلة أوقات مرور عربات الطعام والتسوق فقط حينها يسأل ” أسامة ” هل تريدي شيء و أجيب بلا ، وحين الوصول جمعنا أمتعتنا ونزلنا من الطائرة وتوجهنا إلى مرآب السيارات التابع للمطار بعد أخذ الحقائب لان سيارتي مازالت هناك ، قاد ” أسامة ” السيارة متوجها إلى شقتي وبعد اطمئنانه علي استأذن وذهب لفندق مجاور لينام في أحد الفنادق المجاورة …
مرت الشهرين سريعا ” أسامة ” لم يتركني خلالها يوما كان يذهب معي للجامعة وينتظرني حتى انتهاء المحاضرات كما أنه ساعدني كثيرا في تلخيص الدروس المتأخرة ، و ها قد جاء يوم الفراق أوصلت عضيدي إلى المطار وأعيننا تمتلئان بالدموع أما عني فكنت خائفة من الوحدة وهو يخاف علي من الغربة ، كانت تلك اللحظات قاسية وصعبه ، لم يمضي الوقت على صعوبة الموقف .
سرعان ما عدت إلى حياتي الروتينية أي الجامعة ، السكن ، البحوث ومتطلبات الدراسة إلا أن في هذه الفترة ازداد نشاطي مع المركز الإسلامي حيث بدأت بتدريس وتحفيظ القرآن الكريم للمسلمات الجدد الراغبات في ذلك مع بعض الدروس الدينية ، إحدى طالباتي كانت أنسه من جنسية عربيه من عائلة مسيحيه هاجر أبويها قبل سنوات لبريطانيا لتحسين الوضع المعيشي لهم والغريب أنها من صغرها لم تكن مقتنعة بتناقضات الدين المسيحي ، دلتها صديقة عربية على المركز أتت للزيارة عدة مرات وبعدها أسلمت ولله الحمد كان هذا فترة بقائي في البلاد وتحجبت على يدي فجميع من في المركز سعداء ” بمريم ” المسلمة الجديدة ذات الخلق الحسن و السيرة الطيبة .
بدأت علاقتي ” بمريم ” تأخذ منحى أعمق ولكن داخل المركز فقط نتحدث سويا عن كل شيء حتى تلك الأمور الشخصية و الأسرية ولكن بعد انتهاء الدروس فقد كنت مضغوطة نفسيا وبحاجة إلى صديقة قريبة تفهمني و أستطيع بالبوح لها بكل ثقه ، فقبل معرفة ” مريم ” كنت أتحدث مع غرباء أو مالكة المنزل الذي أسكن فيه أو زميلات دراسة على أنها حكايات لأناس أعرفهم حتى لا يتعاطفوا معي أو يشفقوا علي ولكن مع صديقة المركز سقطت كل الأقنعة أتحدث معها عارية الوجه وبدون خجل أبدا .
مرت الأيام وتوالت الشهور ولله الحمد نجحت بمعدل جيد جدا على صعوبة الظروف إلا أنني كللت جهدي بالنجاح و في أسبوع واحد من أخر اختباراتي جمعت أغراضي و انطلقت إلى أسرتي التي تبدل حالهم بعض الشيء من وفاة والدي فقد قلت اتصالاتهم بي ، ولكن أمرا غريبا حدث يوم السفر فقد اتصلت ” بعمر ” لإخباره بقدومي و أريد من يقلني من المطار للبيت لكنه قال سأرسل لك من يقلك إلى بيت ” أسامة ” فنحن مع أمي في مصر للسياحة العلاجية .
يتبع …….
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شاركنا قصتك على البريد الإلكتروني الخاص بالصفحة
bdwnnqatfwasl@gmail.com