خطب وأم المصلين في المسجد النبوي فضيلة الشيخ الدكتور عبدالباري بن عواض الثبيتي.
وبعد أن حمد الله تعالى بدأ خطبته قائلًا:
في قصص القرآن عظة وعبرة، ودروس لا تنضب؛ يغرسها القرآن، وتتألق راسخة بفصاحته وقوة بيانه، ومن عاش في رحاب القرآن علا قدره واستبان له أمره.
احتفى القرآن بسيرة سيدة ماجدة، وامرأة فاضلة وفتاة عابدة قانتة، خلد القرآن ذكرها في سورة سميت باسمها؛ قال تعالى: (واذكر في الكتاب مريم)؛ زكيت قبل ميلادها، وبزغ فجرها في بيت صلاحه متسلسل، واصطفاؤه مستحق؛ أثنى الله عليه بقوله: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ)؛ فعمران والد مريم ابنة عمران أم عيسى ابن مريم عليه السلام ؛ ولهذا قال سبحانه: (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)؛ والبيت الذي يظلله الدين، ويضاء بالطاعة، ويحيا بالذكر، ويدور مع الشرع حيث دار؛ بيت كريم يُخرج نباته طيبًا ويثمر بإذن ربه ولو بعد حين.
وبيّن فضيلته:
قصة امرأة عمران وقبل الميلاد رسمت مستقبل ما في بطنها وحددت له هدفًا ساميًا في الحياة، وصف القرآن نيتها الصادقة إذ قالت: (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)؛ أي جعلت لك يا رب نذرًا أن ذلك الذي في بطني محررا لعبادتك، وحبسته على طاعتك، وخدمة قدسك لا أشغله بشيء من الدنيا.
وأوضح:
ان الدعاء للذرية أساس التربية، ومفتاح الصلاح والإصلاح، لا يفتر لسان الوالدين عن اللهج به، ولا يغفل قلبهما عن استحضاره في كل وقت وحين، ومن الخطورة بمكان؛ أن تخرج الأم عن طورها حال الغضب والانفعال؛ فتدعو على الذرية بالهلاك وعدم التوفيق، فيوافق ساعة إجابة.
وأكمل فضيلته:
حال امرأة عمران أحاطت النية الصادقة بدعاء خالص أن يتقبل الله منها؛ (فَتَقَبَّلْ مِنِّىٓ ۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ)، أي السامع لدعائي، العالم بما يكون صالحًا؛ لأن الإنسان قد يسأل الشيء وليس من صالحه حصوله، فيسند الأمر إلى علم الله عز وجل.
(فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى)، قالت ذلك اعتذار منها إلى الله أنها وضعتها أنثى لا تصلح للخدمة في البيت المقدس، ثم قالت: وليس الذكر الذي أردته للخدمة كالأنثى، الذكر أقوى على الخدمة وتحمل الأعباء وأقوم بها؛ فلا سواء بين الذكر والأنثى بل لكل واحد منهما ميزاته وخصائصه الرجل يفوق الأنثى في شيء، وللأنثى من الخصائص ما يؤهلها لأن تقوم مقامًا لا يقومه الرجال ولا يطيقونه، ومريم الصديقة أنموذج يؤكد هذا المعنى، يشيد بها القرآن، ويجعل مواقفها دروسًا تحتذى للأجيال.
وأضاف:
تقبل الله دعاء امرأة عمران في مولودتها: (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا)، ورسم لها ولفتاتها بل ولكل فتاة مسلمة معالم الطريق في الحياة السعي لرضا الله، النبات الحسن بكمال الأدب والعفة والحشمة، والصحبة الصالحة التي تعين على الطاعة والعبادة.
(كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ۖ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ)، فالله قد ييسر للإنسان من الرزق ما لا يكون في حسبانه؛ يرزق من يشاء من عباده بغير عوض وبغير حساب فهو الغني يرزق الرزق الكثير، والصديقة مريم تعلمنا إسناد النعمة إلى المنعم، وشكره عليها.
وأوضح فضيلته: موجها النصح أيتها الفتاة المسلمة؛ القنوت والسجود والركوع هو من شكر المنعم الذي وهب لك الجمال، ودثرك بالإسلام، ومتعك بالصحة والعافية، وهو حصانة من منافذ إبليس وخطوات الشيطان، وهو موطن التكريم لمن رامت الكرامة، ومحراب العزة لمن ابتغت إلى ربها سبيلاً.
وبيّن: ان الابتلاء سنة الحياة، وابتليت الصديقة مريم؛ فقد تنحت واعتزلت عن قومها لتتفرغ للعبادة؛ فأرسل الله إليها جبريل فتمثل لها في صورة رجل تام الخلقة، بحسن فائق، وجمال رائق؛ فظهر منها الورع والعفاف مع توفر جميع الدواعي؛ قالت إني أستجير بالرحمن منك أن تنالني بسوء إن كنت تقيًا، فقال لها الملك: إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلامًا من غير أب؛ علامة للناس تدل على قدرة الله تعالى، وتصور حال الصديقة مريم، ووقع الأمر عليها؛ حين تصبح حاملًا بلا زوج ولا مساس من رجل؛ حتى اضطرتها شدة الحال إلى تمني الموت؛ إن تمنيها الموت عند الفتنة كان من جهة الدين، وهو أمر مباح؛ إذ خافت أن يظن بها الشر، وتعير ولا تصدق في خبرها ، وما ورد من النهي عن تمني الموت؛ إنما هو لضر نزل بالبدن.
وفي أوج المواقف العصيبة والمحن يأتي الفرج ويمتد اللطف قال الله تعالى: (فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا، وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا، فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا)،
ومن كان مع الله لا يحزن، ومن حفظ الله لا يقلق، ومن أقبل على الله قرت عينه ، ومن عاش في رحاب الدين حماه الله وضمن له السلامة وهناء العيش وبحبوحة الحياة؛ فلا ترهق نفسك بالتفكير، فالله عنده حسن التدبير، ولا تحمل هم المستقبل؛ فالأمر بيد الله.
وفي خضم الحيرة الشديدة يأتي التوجيه الرباني: (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا)؛ صمتت مريم البتول في موقفها العصيب لتعلمنا أن الإنسان يبلغ به الحال في بعض الأحوال مرحلة العجز حتى في الدفاع عن نفسه، فإن هو علم أن الله وليه وهو كافيه؛ كفاه الله شر كل ذي شر، ودفع عنه بأس كل ذي بأس، صمتت مريم البتول في موقفها العصيب لتعلمنا درسًا تاريخيًا أن الصمت في بعض الأحيان أبلغ من الكلام، وأن السكوت أولى من النطق، وتعلمنا كراهة مجادلة السفهاء، فالسكوت عن السفيه واجب، ومن أذل الناس؛ سفيه لم يجد مسافهاً.
واختتم فضيلته الخطبة بقوله: قال الله تعالى: (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا)؛ اتهام الناس في أعراضهم وتصدير سوء الظن وإصدار الأحكام قبل التثبت ؛ إفك بغيض، وإيذاء بالغ، وبهتان محرم؛ (فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ۖ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا)، الصديقة مريم أشارت إلى طفلها في حجرها عيسى عليه السلام، فقالوا منكرين عليها: كيف نكلم طفلاً رضيعاً؟! فنطق عيسى قائلاً : إني عبد الله قضى بإعطائي الكتاب، وجعلني نبيًا، وجعلني عظيم النفع للناس، وأوصاني بالصلاة والزكاة، وجعلني بارًا بوالدتي، ولم يجعلني متكبرًا ولا شقيًا ولا عاصيًا لربي