القصص كثيرة، والحكايات المسموعة تختلف عن مثيلاتها القريبة في حياتنا اليومية، والمرهونة بالقدر المحتوم!
نعم، قد يقول البعض بأنه: يصعب على الإنسان كتابة نفسه، إلا بشعورية محدودة؛ وحينما يُغلفها بلسان الآخر والبُعد عن الذات بالتشبيه يكون أكثر واقعيةً وتأثيراً على المُحيط!
ولربما تكون هذا الحتمية/ التنصل هُنا وارد، إما للخجل، والحالة، أو التفريط بشواهدها ومضمونها..
لذا ما يشعر النفس بالراحة، هو أنك تكتب ما يختلجها من فرحٍ أو سرورٍ، كيما تسترد عافية الرحمة من جديد، وتنطلق بعدها بشفاه البهجة، أو آهات الوجع لكل راحل!
كالمعتاد عند كل وصولٍ بأهله الأحياء أن يقوم بزيارتهم، والسؤال عنهم، والاتصال بهم، ولكن كيف بمن رحلوا عنه، وقد تهشمت روافد قُبورهم حتى من الدعاء؟!
على كلِّ حالٍّ، في زيارة الأقارب تُسترد الأتارب، وتذهب النوائب، وتغفر الشوائب، وإن كان في "فقد الأحبة غربة"!.
دخلت عصر يوم أمس الخميس المقبرة، وبيدي اليُمنى باقة من آيات السبع المثاني، وأُخرياتها من زيزفون سورة التوحيد، وماء الورد يتصبب من أقاحي ساكن المدينة، ولذكره (صلوا عليه).
فرحت أُطالع الشواهد، وأُضمد الروائد، وإذا بشابٍ وسيمٍ يتجه نحوي بالسلام، وعلامات الصلاح تشعُّ من مُحياه، وطريقة ترحيبه بلهجتنا الحساوية: السلام عليكم..
وأخبارك؟
وشلونك والأهل؟
فرددت عليه التحية بالمثل، وفي داخلي استفهام، من هذا؛ ولعله شبه عليَّ؟!
فتبسم هذا الفتى بابتسامةٍ كالجوري وقال: (كأنك ما عرفتنيه)؟
فأجبته: (بصراحة وجهك مُريح، وملامحك موب غريبة عليّه، بس الكبر شين يا ولد أهليه)!
حينها تأوه، وخبت ابتسامته وراء الغيم، وراح يسرد: "ما تذكر ابويه اللي كان يوصيني بأن أدفنه جنب قبر جدتيه الحجية وخالتيه؛ وجوار قبر أبوك وجدتك"؟!
فقلت: "إيه، بس، بس، تذكرتك..!
(أيش دعوه أنا أعرف أبوك من ثمان طعش سنة تقريباً)..
(أخبارك، وشلون الأهل، والجماعة..
توني شايف الوالد ــ الله يحفظه ــ قبل أسبوع اهنه، وهوه جاي يزور الحجية قبل ما يطلع يسوي رياضة)!
فاسترد ابتسامته مرةً أُخرى، ولونها باحتقان الإجابة كغروب الشمس:
(إيه.. قبل ثلاثة أيام انتهينا من ختمة فاتحته وعزاه)!
حينها حارَّ الكلام على طيات لساني، ولم يتبقى من المشهد إلا نظرات الدهشة، وحسرات الفراق!
وكان تمام المشهد في خُطواتي المُثقلة، وتساؤلاتي المُتسربلة للذكرى خلف مشيته الموجوعة!
فأخذت أقلب صفحات وجوه إخوته الصغار، وأنا أنظر لأيتام هذا الراحل الأربعة على حافة قبر جدتهم، وأنا أتأمل صغرهم تخط على التُراب: ما معنى الرحيل؟!..
فخذ الرواية عندك بالإكمال، "وكفى بالموت واعظاً"!.