خطب وأم المصلين في المسجد النبوي فضيلة الشيخ. أحمد بن طالب بن حميد إمام وخطيب المسجد النبوي الشريف.
وبعد أن حمد الله تعالى بدأ خطبته بقوله:
أيها المؤمنون: اعلموا أنه لا أنفع للعبد من أمورٍ أَرْبَعَةِ: الاستسلام إلى الله، والتضرع إِلَيهِ، وَحُسْنِ الظن به، وَتجديد التَّوْبَة إِلَيْهِ وَلَوْ عُدْتَ إِلَى الذَّنْبِ فِي اليَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً؛ ففي الاستسلام إِلَيْهِ الرَّاحَةُ مِنْ التَّدْبِيرِ مَعَهُ عَاجِلًا، وَالظَّفَرُ بِالْمُنْةِ العظمى آجلا، وَالسَّلَامَةُ مِنَ الشَّرْكِ بِالْمُنازَعَةِ، وَمِنْ أَيْنَ لَكَ أَنْ تُنَازِعَهُ فِيمَا لَا تَمْلِكُهُ مَعَهُ؟! وَأَلْقِ نَفْسَكَ فِي تملكتِهِ فَإِنَّكَ قَلِيلٌ في كثيرها، وصغير في كبيرها ، يُدَبِّرُكَ كَمَا يُدبرها، فَلَا تَخْرُجْ عَمَّا هُوَ لَكَ مِنَ العُبُودِيَّةِ، إلى ما لَيْسَ لَكَ مِن ادْعَاء وَصْفِ الربوبية، فَإِنَّ التَّدْبِيرَ وَالاخْتِيَارِ مَنْ كَبَائِرِ القُلوبِ والأسرار، وتجد ذلك في كِتَابِ اللهِ تَعَالَى، قَالَ اللهُ تعالى: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَنَ اللَّهِ وَتَعلَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ).
وأكمل فضيلته: وأما التضرع إلى الله تعالى ففيه نزول الزوائد، وَرَفْعُ الشَّدائِدِ، والانطواء فِي أَرْدِيَةِ المننِ، وَالسَّلَامَةُ مِنْ المحنِ، فَتُعَوضُ جَزَاء ذَلِكَ أَنْ يَتَوَلَّى مَوْلاكَ الدَّفْعَ عَنْ نَفْسِك في المضار، وَالجَلْبَ لك في المسار، وَهُوَ البَابُ الْأَعْظَمُ، وَالسَّبِيلُ الأقْوَمُ، يُؤَثِرُ مَعَ الكُفْرانِ، فَكَيْفَ لَا يُؤْثُرُ مَعَ الإيمان! أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَهُ تَعَالَى : (وَإِذَا مَسَّكُمُ ٱلضُّرُّ فِى ٱلْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلَّآ إِيَّاهُ ۖ فَلَمَّا نَجَّىٰكُمْ إِلَى ٱلْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ ۚ وَكَانَ ٱلْإِنسَٰنُ كَفُورًا)؛ أَيْ: فَأَجَابَكُمْ، وَهُوَ البَابُ الَّذِي جَعَلَهُ الله تعالى بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِبَادِهِ، تَرد وارداتُ الْأَلْطَافِ عَلَى مَنْ تَوَجَّهَ إِلَيْهِ، وَتَتَوَالَى المننُ عَلَى مَنْ وَقَفَ بِهِ عَلَيْهِ، ويصْلُ إِلَى حَقِيقَةِ العِنَايَةِ مَنْ دَخَلَ مِنْهُ إِلَيْهِ، وَمتى فَتَحَ عَلَيْكَ بِهِ فَتَحْ عَلَيْكَ مِنْ كُلِّ خَيْرَاتِهِ، وَأَوْسَعِ هِبَاتِهِ، وَتَجدُ ذلك في كِتابِ اللهِ تَعَالَى : (فَلَولَا إِذْ جَآءَهُم بَأْسُنَا تضرعوا).
وأضاف فضيلته: وَأَمَّا حُسْنُ الظَّنِّ بِاللَّهِ فَبَخ بَخٍ بِمَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بها، فَمَنْ وَجَدَها لَمْ يَفْقِدُ مِنَ الخَيْرِ شَيْئًا، وَمَنْ فَقَدَهَا لَمْ يَجِدُ مِنْهُ شَيْئًا، لا تَجِدُ لَكَ عُذْرًا عِنْدَ اللهِ أَنْفَعَ لَكَ مِنْهَا وَلَا أجدى، وَلَا تَجدُ أَدَلَّ عَلَى اللَّهِ مِنْهَا وَلَا أَهْدَى، تُعَلِّمُكَ عَنِ اللَّهِ بِمَا يُرِيدُ أَنْ يَصْنَعَهُ مَعَكَ، وَتُبَشِّرُكَ بِبَشَائِرَ لا تَقْرَأُ سُطُورَها العَيْنَانِ، وَلَا يُترجم جمُ عَنْهَا اللَّسَانُ، وَتجد ذَلِكَ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاكِيًا عَنِ الله: «أَنَا عِنْدَ ظَن عَبْدِي بِي».
واختتم فضيلته الخطبة بقوله: اعلموا أن تجديد التوبة إلى الله عَيْنُ كُلِّ رُتْبَةٍ ومَقامِ، أَوَّلِهِ وَآخِرِه، بَاطِنِهِ وَظَاهِرِه، لا مَزيَّةَ لِمَنْ فَقَدَهَا، وَلَا فَقَدَ لِمَنْ وَجَدَها، مِفْتَاحُ كُلِّ خَيْرٍ ، ظَاهِرٍ وَبَاطِنِ، رُوحُ المقاماتِ وَسَبَبُ الولايات، لم يجعل الحقُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى رُتْبَةً دونها، إلا الظلم، فَهِيَ مَطْلُوبَةٌ مِنْ كُلِّ رَسُولٍ وَنَبِي، وَصِدِّيقٍ وَوَلِي، وَبَارٍ تَقي، وَفَاجِرٍ غَوي، وَكَافِرٍ شَقِي، وَتَجدُ ذلك في كتاب الله تعالى، قالَ اللهُ سُبْحانَهُ وَتَعَالَى: (يَأْيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ) ، فَتَقُواهُ بِالتَّوْبَةِ إِلَيْهِ، وَالنَّدَمِ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَهْلُ الشَّرُورِ تَوْبَتُهُمْ بِالخُرُوجِ مِنْ شُرُورِهِمْ، وَأَهْلُ الخيورِ تَوْبَتُهُمْ بِعَدَمِ الوُقوفِ مَعَ خُيُورِهِمْ، وِرْدًا كَانَتْ أَوْ وَارِدًا، كلاهُما مَعَ عدم الوقوفِ مَعَهُما واحِدٌ، (مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ۚ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ)، وَإِنَّ مِنْ مِلَةِ إِبْرَاهِيمَ عَدَمَ الوُقوفِ مَعَ الفانِيَاتِ، وَالانْقِطَاعَ عَنْ نَظَرِ الكَائِنَاتِ، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُخبرًا عَنْهُ: (لَآ أُحِبُّ الْأَفِلِينَ)؛ وبالجُمْلَةِ، مَنْ لم يَنْفَعُهُ القليل، لم يَنْفَعُهُ الكَثِيرُ، وَمَنْ لَّمْ تَنْفَعُهُ الإِشَارَةُ، لَمْ تَنْفَعُ فيه العبارة، وإذا أَفْهَمَكَ اللهُ، لَمْ يَنقَطِعُ سَمَاعُكَ، وَلَمْ يَتَحَيَّنِ انْتِفَاعُكَ.