خطب وأم المصلين في المسجد النبوي فضيلة الشيخ الدكتور عبدالمحسن بن محمد القاسم إمام وخطيب المسجد النبوي الشريف.
وبعد أن حمد الله تعالى بدأ بقوله أيُّها المسلمون: فضَّلَ اللَّهُ اللَّياليَ والأيَّامَ بعضَها على بعضٍ، واصطفى من الشُّهور شهراً جعلَه غُرَّةَ شهورِ العامِ، وخصَّه بمزيدٍ من الفضل والإكرام؛ فأُنزلَ فيه القرآن، وفيه تُفتح فيه أبواب الجِنان، وتُغلق أبواب النِّيران، وتُصفَّد الشَّياطين، وتُكفَّرُ فيه الخطايا إذا اجتُنبت الكبائرُ، قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «الصَّلَوَاتُ الخَمْسُ، وَالجُمُعَةُ إِلَى الجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ؛ مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتُنِبَتِ الكَبَائِرُ»؛ قال النَّوويُّ رحمه الله: «كلُّ واحد من هذه المذكورات صالحٌ للتَّكفير؛ فإن وَجَد ما يكفِّره من الصَّغائر كفَّره، وإن لم يصادف صغيرة ولا كبيرة؛ كُتِبت به حسناتٌ ورُفِعت به درجاتٌ، وإن صادَفَت كبيرةً أو كبائرَ ولم يصادف صغيرةً؛ رجَوْنا أن يخفِّف من الكبائر».
وأكمل: الصِّيام يَقِي من الآثامِ والنَّار؛ قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «الصِّيَامُ جُنَّةٌ»، وأمَّا ثوابه: فالذي يتولاه هو الرَّبُّ الكريم، قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصَّوْمَ؛ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ»، قال القرطبيُّ رحمه الله: «معناه: أنَّ الأعمال قد كُشفت مقاديرُ ثوابِها للنَّاس، وأنَّها تُضاعف من عشرةٍ، إلى سبع مئةٍ، إلى ما شاء الله؛ إلَّا الصيامَ؛ فإنَّ الله يثيب عليه بغير تقدير».
وبيّن فضيلته: العمل الصَّالح يَشرُف في الزَّمان الفاضل؛ وأفضلُ القُرُبات: توحيد الله وإخلاص العمل إليه، وبهذا أُمر جميع الخلق، قال تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾، والأعمال الصالحة لا تقبل إلا بمتابعة سُنَّةِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وطاعته صلى الله عليه وسلم موجبة للجنَّة، قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ»؛ والصَّلاةُ عمُود الدِّين، وعهدٌ على الله من حافظ عليها دخل الجنَّة، ومن نامَ عن فرضِها لَمْ يَعرفْ رمضان، فمن تكاسَلَ عن سُنَنِها ورواتِبِها فقد غَفَلَ عن فضلِ رمضان؛ والقرآن الكريم ممَّا امتنَّ الله به على هذه الأمَّة، قال سبحانه: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ﴾، كثُرت أسماؤه وتعدَّدت أوصافُه، وقدَّمه في الذِّكر على كثيرٍ من نِعَمه؛ ﴿الرَّحْمَنُ* عَلَّمَ الْقُرْآنَ﴾، تلاوته تزيد في الإيمان، وآياته أبكت العظماء، امتدح الله من تلاه وعمل به، ووعده بالزِّيادة والوفاء، قال سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ* لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾، وأفضل ما يتلى القرآن في الشَّهر الذي نزل فيه، قال ابن عبَّاس رضي الله عنهما: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ»، قال ابن حجر رحمه الله: «بمجموع ما ذكر: من الوقت، والمنزول به، والنَّازل، والمذاكرة؛ حصل المزيد في الجود»؛ وأسعدُ النَّاس أقربُهم من كتاب الله، ومن حُجب قلبه عن الانتفاع بالقرآن فلن يهتديَ بغيره.
وأضاف: قيامُ اللَّيل من صفاتِ أهل الجنَّة، قال جلَّ وعلا: ﴿كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ﴾، وأفضلُ صلاةِ المرءِ بعد المكتوبةِ: صلاةُ اللَّيل، فحافظْ على صلاةِ التَّراويح مع الإمامِ حتَّى يَنصرفَ؛ لِتتعرَّضَ لنفحاتِ اللَّه، قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ قَامَ مَعَ الإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ؛ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ».
وأوضح فضيلته: الدُّعاءُ يخترق السَّموات حتَّى يصل إلى الله ولا يردُّه أحد، قال سبحانه: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾، ويدا الله مبسوطتان، دائمتا الصَّبِّ بالعطاء في الليل والنَّهار، وخزائنه ملأى، فسَلِ الكريمَ ما شئت من خيري الدُّنيا والآخرة – من الهداية وصلاح الذُّرِّيَّة، والسَّعادة والفلاح، والرِّزق الحلال، ودخول الجنة -، وادْعُ ربَّك بكلِّ ما تتمنَّاه؛ يتحقَّقْ لك بإذن الله.
وبيّن: الصَّدقةُ بُرهانٌ على الإيمان، وأفضلُها: ما كان في رمضان، وإنفاق المال خيرٌ للنَّفس، قال سبحانه: ﴿وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ﴾، والملائكة تدعو للمنفِق كلَّ يوم بالخُلف عمَّا أنفق.
وأوضح فضيلته: التَّوبة الصَّادقة من أفضل العبادات، قال ابن القيِّم رحمه الله: «أكثر النَّاس لا يعرفون قدر التَّوبة ولا حقيقتَها»، ولا يكمُل عبدٌ، ولا يحصل له كمال قربٍ من الله إلَّا بها، وقد أمر الله جميع المؤمنين بالتَّوبة لينالوا الفلاح؛ فقال: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.
وبيّن: المرأة مأمورة بما يُؤمَر به الرِّجال من العبادات – من تلاوة القرآن، والصَّدقة، والدُّعاء، والاستغفار، والتَّوبة، وقيام اللَّيل – إلَّا أنَّ صلاتَها في دارِها خيرٌ لها من صلاتِها في المسجد، قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «وَبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ».
وأوضح فضيلته: أيَّامُ رمضان آخِذَةٌ في الانصرام، والعاقلُ من اغتنَمَها، وما الحياةُ إلَّا أنفاسٌ معدودة، وآجالٌ محدودة، والأيَّامُ مطايا إلى هذه الآجال، فاعملوا وأَمِّلوا وأَبْشِرُوا؛ والمَغبونُ مَنِ انصرفَ أو تشاغلَ بغير طاعة اللَّه، والمَحْرُومُ مَنْ حُرِمَ الخيرَ في رمضان، والعِبرةُ بكمال النِّهاياتِ لا بنَقصِ البداياتِ، والأعمالُ بالخواتِيمِ.
واختتم الخطبة بقوله: شرع اللَّه صوم رمضان، وجعله الرُّكنَ الرَّابعَ من أركان الإسلام لِتحقيق التَّقوى؛ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾، فعلى المسلم أن يتَّقي الله، ويحذَر من خَوارِق الصوم ومُفسداتِه، وليحفظ لسانَه وسمعَه وبصرَه عمَّا حرَّم اللَّه، قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ، والجهل – وهو فِعل الْجُهَّال، أَو السفاهة على النَّاس – فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ».