خطب وأم المصلين في المسجد النبوي فضيلة الشيخ الدكتور علي بن عبدالرحمن الحذيفي إمام وخطيب المسجد النبوي الشريف.
وبعد أن حمد الله تعالى بدأ خطبته بقوله: عباد الله ما أعظم البشرى للمؤمنين من الرب الرحيم ذي الكلمات التامات الذي لا يخلف الميعاد، وتتحقق البشرى إذا تحققت شروطها فاستبشروا بوعد العظيم الجليل القائل: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ ﴾.، إن الذي قالوا ربنا الله ثم استقاموا، تمام الكلام: تتنزل عليهم الملائكة، وقول المؤمنين: ربنا الله، إقرار باللسان واعتقاد بالقلب وهو الجنان، كما قال تعالى: ﴿رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا﴾، ومع القول والاعتقاد؛ استقامة عمل صالح؛ ثم استقاموا، فالإيمان قول واعتقاد وعمل، والاستقامة أمر عظيم وأعلاها هي القيام بالفرائض والواجبات والمستحبات ومجانبة المحرمات والمكروهات والثبات على ذلك، كما أمر الله بذلك رسوله ﷺ بقوله: ﴿ فَٱسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْاْ ۚ إِنَّهُۥ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾؛ والمؤمنون في الاستقامة درجات كما قال سبحانه: ﴿ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا ۖ وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ﴾.
وقول الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وقت قولهم ذلك عند انقطاع الدنيا والدخول في الآخرة، تقول للمؤمنين جزاءً لهم على الاستقامة لا تخافوا، والخوف لا يكون إلا من مستقبل، أي: لا تخافوا على من خلفتم وراءكم من الذرية فالله يتولاهم وهو يتولى الصالحين؛ ولا تحزنوا؛ والحزن لا يكون إلا على الماضي، أي: لا تحزنوا على ما مضى فقد انتهى الحزن ولن يعود، وهذه بشرى على الاستقامة بالأمن من المستقبل وأن الحزن لن يعود؛ وتقول لهم الملائكة وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون، قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ﴾ والجنة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. [رواه البخاري]؛ نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة؛ فالملائكة أولياء المؤمنين في الدنيا بالنصرة والتأييد، قال تعالى: ﴿ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾؛ والملائكة تطمئن المؤمن ليصدق بوعد الله وتطرد وساوس الشيطان عن المسلم، عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – عن النبي ﷺ قال: «إن للشَّيطانِ للمَّةً بابنِ آدمَ، ولِلمَلك لَمَّةٌ، فأمَّا لمَّةُ الشَّيطانِ فإيعادٌ بالشَّرِّ وتَكْذيبٌ بالحقِّ، وأمَّا لمَّةُ الملَكِ فإيعادٌ بالخيرِ وتصديقٌ بالحقِّ».
وأكمل: والملائكة أولياء المؤمنين بالحفظ في الدنيا من الشياطين، قال تعالى: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾. والملائكة أولياء المؤمنين في الدنيا بالصحبة الدائمة بكل خير وبر، والملائكة أولياء المؤمنين في الآخرة، قال تعالى:﴿ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ۚ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ﴾. والبشائر من الملائكة للمؤمنين بأمر الله تتوالى، وكل بشارة أعظم من الأخرى وآخر بشارة لهم في هذه الآية قولهم: ﴿وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ﴾، لكم في الجنة كل ما تتمنون وفوق الأماني ولكم كل طلب تدعون به، نزلاً من غفور للذنوب، رحيم رحمة بالمؤمن، والنزل في لغة العرب ما يعد للضيف، وهذا كقول الله تعالى : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾.
وأضاف فضيلته: ومن أعظم وصايا النبي ﷺ التي تجمع الدين كله، قوله عليه الصلاة والسلام لسفيان بن عبد الله – رضي الله عنه – : «قل آمنت بالله ثم استقم» [رواه مسلم]؛ وما أحسن أن يتذكر المسلم هذه الآيات العظيمة بعد أن يقوم بصالحات الأعمال راغباً راجياً لله تعالى، راهباً خائفاً من ربه ليرحمه ويجيره من عذابه؛ والمسلمون بالعمل بالاستقامة درجات، فأعلاهم درجة وأحسنهم حالاً هم الذين يتبعون الحسنات بالحسنات ويتركون المحرمات فأولئك السابقون، قال تعالى: ﴿ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴾، ودون هذه الدرجة درجة قوم عملوا الحسنات وقارفوا بعض السيئات، وأتبعوا السيئات الحسنات، قال تعالى: ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ ۚ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ۚ ذَٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذَّاكِرِينَ ﴾، وإذا نزل المسلم عن هذه الدرجة الثانية خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً وهو لما غلب عليه منهما، وهو تحت رحمة الله ومشيئته، قال تعالى: ﴿ وَأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ ﴾.
واختتم فضيلته الخطبة بقوله: فاتقوا الله بالعمل بمرضاته، ومجانبة محرماته، تفوزوا برضوانه وجناته، قال تعالى: ﴿ مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ وتفيد الآية أن من جاء بالحسنة محافظاً عليها من المبطلات فله عشر أمثالها، فاعمل الخيرات وجانب المحرمات، واعمل بوصية الرسول ﷺ اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن.