أثناء رحلة غوص ممتعة على شاطئ نصف القمر في المنطقة الشرقية للاحتفال بيوم المحيط العالمي، لاحظنا وجود العديد من المخلفات البلاستيكية في موقع الغوص بأحجام وأصول مختلفة. وتطبيقا لأحد المبادرات الهامة للحفاظ على البيئة، حاولنا جمع أكبر كمية ممكنة من هذه المخلفات. لكن وجودها بكثافة وبشكل مستمر يشير إلى مشكلة بيئية كبيرة تتطلب جهودًا مشتركة لحلها. وللعلم فإن هذه المخلفات البلاستيكية كانت مرئية للعيان، ولكن ماذا عن البلاستيكات الدقيقة غير المرئية؟
التلوث بالبلاستيكات الدقيقة أصبح مصدر قلق عالمي يهدد البيئات البحرية في جميع أنحاء العالم، والخليج العربي ليس استثناءً من هذه القاعدة. ففي دراسة حديثة نُشرت مؤخرًا، تمت الإشارة إلى مدى تأثير التلوث بالبلاستيكات الدقيقة على الساحل الشرقي للمملكة العربية السعودية، مع التركيز على أربعة مواقع رئيسية هي الخفجي، الجبيل، الدمام، وخليج سلوى. فقد أظهرت النتائج تفاوت مستويات التلوث بين المواقع التي شملتها الدراسة، حيث كانت الدمام الأكثر تلوثًا بمتوسط 21.2 جسيم/كجم، بينما كانت الجبيل هي الأقل تلوثًا بمتوسط 5.5 جسيم/كجم، في حين سجلت الخفجي متوسط تلوث بلغ 12 جسيم/كجم، وخليج سلوى 16.5 جسيم/كجم في مناطق المد العالي. هذا التفاوت يعكس التأثيرات المختلفة للأنشطة البشرية والبيئية على مستويات التلوث.
تأتي البلاستيكات الدقيقة في الغالب من الأنشطة البرية مثل جريان المياه السطحي الحضري والتصريف الصناعي، بالإضافة إلى الأنشطة البحرية مثل الشحن وصيد الأسماك والتطوير الحضري على امتداد المناطق الساحلية. هذه البلاستيكات تؤثر سلبًا على النظام البيئي البحري، مسببة أضرارًا جسيمة للأنسجة المرجانية، وإطلاق المواد الكيميائية السامة، وابتلاعها من قبل الكائنات البحرية مما يؤدي إلى انسدادات في أجهزتها الهضمية وانخفاض في امتصاص العناصر الغذائية، وتدهور المواطن البيئية.
عند مقارنة نتائج هذه الدراسة مع المتوسط العالمي لتركيزات البلاستيكات الدقيقة في الرواسب البحرية، والذي يتراوح عادة بين 100 و1000 جسيم/كجم، نجد أن مستويات التلوث في السعودية أقل بكثير. على سبيل المثال، التلوث في الدمام (21.2 جسيم/كجم) أعلى قليلاً من الحد الأدنى للمتوسط العالمي، بينما الجبيل (5.5 جسيم/كجم) يقع ضمن الحدود الدنيا. هذا يشير إلى أن التلوث في الساحل الشرقي للمملكة أقل شدة من مناطق أخرى، لكنه لا يزال يشكل تحديًا بيئيًا.
من الأمثلة على الشواطئ المتضررة عالميا، شواطئ تل أبيب في إسرائيل فهي من بين الأكثر تلوثًا بالبلاستيكات الدقيقة على مستوى العالم، حيث تحتوي على أكثر من 2 مليون طن من البلاستيكات الدقيقة. تشمل الشواطئ الأخرى المتأثرة شاطئ كاميلو في هاواي، الولايات المتحدة، الذي يعاني من حطام بلاستيكي قادم من روسيا واليابان بسبب التيارات البحرية، وشاطئ جوهو في مومباي، الهند، المشهور بتلوثه الشديد بالأكياس البلاستيكية. فيتنام ليست بعيدة عن هذا الواقع حيث إن جزيرة فو كوك الجميلة محاطة بكمية كبيرة من النفايات. أما هايينا في جمهورية الدومينيكان، فهي ملوثة بشدة نتيجة التلوث الصناعي وتدفق النفايات من المجاري المفتوحة. كما أن ساحل جزيرة الحرية في مانيلا، الفلبين، مغطى بالبلاستيكات الأحادية الاستخدام من شركات كبرى مثل يونيليفر ونستلة.
هناك حلول مبتكرة لمعالجة مشكلة التلوث بالبلاستيكات الدقيقة، تشمل تطوير واستخدام مرشحات مياه متقدمة قادرة على إزالة البلاستيكات الدقيقة من المياه العادمة والتحول نحو استخدام البلاستيكات القابلة للتحلل الحيوي في المنتجات اليومية بالإضافة إلى إطلاق حملات توعية وتثقيف لزيادة الوعي حول المشكلة. كما تشمل الحلول تطوير تقنيات تنظيف البيئة البحرية مثل استخدام الروبوتات الغواصة لجمع البلاستيكات من قاع البحر، وإعادة تصميم المنتجات الاستهلاكية لتقليل أو إلغاء استخدام البلاستيكاتفي تصنيعها. بالإضافة إلى ذلك، يجب سن قوانين وتشريعات صارمة تحد من رمي البلاستيك، وتمويل الأبحاث التي تهدف إلى فهم أفضل لتأثيرات البلاستيكات الدقيقة. إن تعزيز التعاون بين الحكومات والشركات والمؤسسات غير الحكومية، سيساهم في تشجيع تقليل استهلاك البلاستيك، وتحسين نظم إدارة النفايات الصلبة لضمان جمع ومعالجة البلاستيكات بشكل صحيح.
مع أن الحلول والتقنيات متوفرة، إلا أن الحكومات حول العالم تواجه تحديات كبيرة في مكافحة التلوث بالبلاستيكات الدقيقة. يشكل التمويل اللازم لتطوير وتطبيق التقنيات الحديثة عبئًا ماليًا كبيرًا، بالإضافة إلى صعوبة سن التشريعات البيئية وتنفيذها بصرامة في وجه مقاومة بعض الصناعات والشركات التي تعتمد بشكل كبير على البلاستيك. تتطلب معالجة التلوث البحري التعاون الدولي الفعال، وهو أمر معقد نظرًا لاختلاف السياسات والتوجهات بين الدول. كما أن زيادة الوعي لدى الجمهور حول أهمية تقليل استهلاك البلاستيك والمشاركة في المبادرات البيئية يمثل تحديًا، خاصة في المجتمعات التي لا تعي حجم المشكلة. علاوة على ذلك، تفتقر العديد من الدول إلى البنية التحتية المتطورة لإدارة النفايات الصلبة بشكل فعال، مما يجعل عملية جمع ومعالجة البلاستيكات الدقيقة أكثر صعوبة.
تبذل المملكة العربية السعودية جهودًا ملموسة لمكافحة التلوث البلاستيكي من خلال مبادرة السعودية الخضراء (SGI) التي أطلقتها في عام 2021. هذه المبادرة تتضمن عدة مشاريع تهدف إلى تحسين إدارة النفايات، دعم الاقتصاد الدائري، وتعزيز الاستدامة البيئية. من بين المبادرات البارزة، تشارك شركة سابك في برنامج تحالف القضاء على النفايات البلاستيكية في المحيطات، كما تعمل المملكة على تطوير نظام إدارة نفايات متقدم لتحويل 94% من النفايات في الرياض بعيدًا عن مكبات النفايات، وإعادة تدوير أكثر من 1.3 مليون طن من النفايات القابلة للتحلل. كذلك، أطلقت المملكة مشاريع لزراعة 10 مليارات شجرة على مدى العقود القادمة وإعادة تأهيل 40 مليون هكتار من الأراضي.
من الواضح أن التلوث بالبلاستيكات الدقيقة يمثل تحديًا بيئيًا كبيرًا يتطلب جهودًا مشتركة من جميع القطاعات لمواجهته. من خلال اتخاذ خطوات مبتكرة ومتبصرة، يمكننا التخفيف من تأثيرات هذه المشكلة وحماية بيئتنا البحرية للأجيال القادمة. تسليط الضوء على هذه الجهود يمكن أن يعزز الوعي بأهمية اتخاذ إجراءات فعالة للحد من التلوث بالبلاستيكات الدقيقة محليا وعالميًا. كل فرد يمكنه أن يساهم، سواء من خلال تقليل استخدام البلاستيك أو دعم المبادرات البيئية، فلنكن جزءًا من الحل.
صور شرائح مقطعية مكبرة توضح أحد أشكال البلاستيكات الدقيقة
د. فواز محمد الخالدي
اختصاصي جيولوجيا رسوبيات بحرية