لا شك بأن سوء الظن من أسوء الأعمال المقيتة التي تقود الفرد الى الطعن والقذف والاتهامات والاسقاطات الباطلة الظنية دون دليل، وقد أمرناه الله عز وجل بالبعد عنه لما يترتب عليه من مفاسد جم. يقول الله عزل وجل في محكم كتابه: (يا أيها الذين أمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم). الحجرات آية 12.
والتجنب المذكور في الآية الكريمة المراد به البعد تماماً عن الدخول في دائرة الظن أو الشك التي ستكون نهاياتها حتماً البغض والعداء بين افراد المجتمعات.
ولكن ومع كل ماسبق ذكره تبقى هناك مشكلة تكمن فينا نحن؛ وهي السماح لذواتنا بتقبل سوء الظن على نقيضه.
قال أحد الحكماء. (ما أبحر إنسان في نوايا الناس إلا غرق).
فمن الملاحظ في الآونة الأخيرة كثرة الخصومات في جميع المجتمعات، وتفاقم أمرها حتى طالت الأصدقاء و الأقرباء وللأسف الشديد حتى بين الأشقاء! فلو تتبعنا الأسباب التي أدت الى الخصومة فيما بينهم لوجدنا نسبة ليست بالقليلة ناجمة عن سوء الظن. فأي حياة هذه التي تملؤها الشكوك والظنون؟! حياة قهرٍ ودمارٍ لا تقتصر على من يسئ الظن فحسب ولكن قد تنعكس نتائجها على جميع من حوله.
وهنا وقفة لأتحدث عن أبرز مخرجات سوء الظن ألا وهو الظلم.
ففي بعض المواقف اصبحنا نجد الظلم عدل وأن الموازين يجب ألا تكون متكافئة بين الكفتين حتى تتحقق الغاية؟! وماهي الغاية؟
لو لاحظنا في مجتمعاتنا العربية أو غير العربية في بعض الأوقات لوجدنا أن العادات المتعارف عليها هي التي تفرض نفسها على الواقع ولو كان هذا على حساب العدل أو الحقيقة.
فمثلاً عندما يجد الشخص نفسه في موقف حرج وقد يُتهم في نزاهته من الطرف الآخر الأمر الذي يدفع المتهم "ظناً" بالتجرد من العدل والإنصاف ارضاءً للعادات والتقاليد. وهنا تتحقق الغاية من النزاهة المشوهة بالظلم!!
وعلى سبيل المثال: في المدرسة عندما يكون ولي أمر طالب هو المعلم ذاته الذي يشهد له سجل انجازاته وامانته في تحمل المسئولية، فلو كان الإبن هو الطالب الأجدر بمنحه جائزة التفوق فهل سيجد الطالب ترحيباً من زملائه، او المعلم سيجد قبولاً من معلمي المدرسة؟! أترك لك الإجابة عزيزي القارئ.
تظهر سلامة القلب عندما نشاهد طالب متفوق يكافأ من معلمه أو من مدرسته أو حتى من أهله، حينها ترسم على شفاهنا ابتسامة الرضى ويتبادر في أذهاننا بأن المكافأة هي أقل ما يمكن فعله انصافاً وتعزيزاً لمن يستحق...
وهذا أنا مع ابنتي التي تشكو حالها مع زميلاتها في المدرسة، وكانت تتردد عليً في كل مرة تصف زميلاتها بالتنمر، تسمع منهن تارة بأن المركز الأول كان مستحقاً لغيرها، وتارة تسمع لولا والدتك المعلمة التي تعمل في ذات المدرسة لما حصلت على الدرجة الكاملة، ولما حصلت أيضاً على الاهتمام والمعاملة الخاصة من المدرسة الخ....، حتى وصل بها الحال الى رغبتها في طلب النقل من المدرسة للابتعاد عن والدتها لتثبت لهن بأنها تستحق أن تكون هي الأولى على المدرسة وبكل جدارة.
وذاك الرجل الذي يعمل في منظمته يعاني من ذات المشكلة أيضاً التي أصبحت تشكل عليه عبئاً نفسياً كبيراً خاصة في نهاية كل عام وتحديداً في فترة تقييم الموظفين تجده يشكو من بعض الزملاء الشكوك والظنون التي تفسد عليه مقاصده ولو كانت نزيهة وعادلة، بعبارات تحمل بين طياتها الظلم والتشكيك والتجريح، وعلى سبيل المثال سماعه لعبارة أنت تفعل كذا لأجل كذا وأنت تكافئ فلان لأجل القرابة أو لأجل العلاقة الجيدة بينكم والعبارات تطول...،
وعلى ضوء ما تقدم سأذكر لكم قصة جميلة كانت تتحدث عن رجل يعمل في إحدى المنظمات وكان مسؤولاً لأحدى الإدارات الكبرى في المنظمة. وذات يوم دخل عليه في مكتبه موظف شاب كان يعمل بالمنظمة ذاتها وعرّفه على نفسه وقال له أنا فلان ابن فلان الذي صدر قراره بتكليفي بديلاً عنك، فرحب به المدير صاحب الخبرة الطويلة والإنجازات الكبيرة وقال له تفضل بالجلوس مكاني، فشعر الموظف الذي صدر قراره بالخجل وأصر أن يبقى في مكانه، وكان لدى المدير السابق معرفة جيدة عن هذا الشاب.
وفي اليوم التالي باشر المدير الجديد مهامه بالمكتب وطلب من جميع موظفي إدارته الجديدة بحضور اجتماع تعارفي فيما بينهم، وكان من ضمن الحضور المدير السابق.
عندما تنظر عزيزي القارئ لحال المدير السابق تجد أن هناك شيء من التقليل في حقه أو الحرج الذي سيواجه، ولكن ما يمتلكه المدير السابق من وعي وخبرة وحنكة فقد تعامل مع الموقف بشكل مثالي ورائع.
وبعد مضي أسابيع قلائل بدءَ يشعر المدير الجديد بالملل من المدير السابق نظراً لتدخله في بعض القرارات التي كان يريد إصدارها لتشكيل إدارته الجديدة. كان يعلق على بعض القرارات بأنها ليست صالحة أو يوجد بها شيء من المخاطرة أو عدم نفعه،
وكان في كل فترة يسأل عن حال مديره الجديد مع الإدارة الجديدة فمثلا يسأله هل هناك من إشكالات تحتاج الى مشاركتي معك؟ أو أي استفسار يستدعي مداخلتي؟ كان هذا من باب الدعم والمشاركة الفعالة للإدارة الجديدة.
لكن كان المدير الجديد منزعج كثيراً وكان يتصور أن المدير السابق كان يدعي مساعدته من خلال تعليقاته بعدم تناسب القرارات الجديدة مع طبيعة العمل وأن الأفضل أن يكون كذا لأجل كذا، كان كل هذا من وجهة نظره من باب الغيرة والحسد. وبعد مرور أشهر قليلة تفاجأ المدير الجديد بخبر صدور قراراً مفاده تقاعد المدير السابق بناءً على طلبه، قمة السعادة كانت تملأ قلب المدير الجديد وياله من خبر مفرح...
وفي ذات يوم وبعد تقاعد المدير السابق عُقد اجتماع بين المدير العام ومسئولي المنظمة مع المدير الشاب لمناقشة أهم الأعمال والإنجازات خلال فترة عمله، وبعد الانتهاء من الاجتماع وعرض الانجازات للإدارة كانت ملامح المدير العام تدل على تمام الرضى على النتائج الرائعة التي حققها هذا المدير الشاب، وقال كلمة شكر وامتنان كانت مجيرة للمدير السابق.! "الله يذكرك بالخير يا فلان". فأنطلق المدير الشاب بصوت عالي ومتألم قائلاً وما علاقة المدير السابق بهذه الإنجازات فجميعها كانت بقيادتي وتحت اشرافي أنا فحسب.
فكانت ردة فعل المدير العام لحظة صمت مصحوبة بابتسامة تعلو وجهه وقال بكل هدوء رداً عليه (المدير السابق هو من رشحك لهذا المكان وهو الذي كان يراهن عليك!).
صدمة مؤلمة تظهر النتائج التي ترتبت على سوء الظن في أسوء صوره.
فلو سألنا أنفسنا ما الذي دعانا نحن البشر إلى الشكوك والظنون التي كانت من محض الظن فقط، وكيف اندفع الكثير منا بالإشارة إلى الغير بتهم ظنية باطلة ومقيتة وقدمناها على حسن الظن والفضائل؟!
الإجابة في اعتقادي كما ذكر أعلاه تكمن فينا نحن من خلال التساهل والسماح لذواتنا بتقبل الظنون الناتجة عن وسوسة الشيطان وعمله.
انا لا أنكر التجاوزات التي تحصل في جميع زوايا الحياة ولكن أنكر التعميم وأنكر التشكيك والظنون التي كانت قائمة لإثباتات ظنية وتجردها من القطعية والله المستعان.
إلى هنا انتهي من هذا المقال بوجوب التزامنا من إعادة النظر مع أنفسنا في تعاملاتنا مع جميع البشر من المسلين وبالعودة إلى الآية الكريمة المشار إليها في بداية المقال.
اللهم اجعلنا محسنين الظن بك دائماً وابداً واجعل عاقبة أمرنا فرحاً وفرجاً ..
بقلم/ عبد الرحمن بن حسين الجفري