يقول أحد الحكماء: لا يتأثَّر بالفراق إلا النُّفوس الكريمة، فلو رَبطتَ حِمارًا مع فرس زمنًا ثم فرَّقت بينهما فإن الحمار لا يتأثَّر! لكنَّ الفرس يُكثر الحنين!
يعيش الزوجان تحت سقف واحد، وعلى فراشٍ واحد، وتمر بهما المناسبات السعيدة، واللَّحظات الجميلة، ويقتسمان الفَرح والتَّرح، ويعيشان في دائرة الفَضل؛ بحيث يجود كلٌّ منهما بأحسن مما لديه، فلم يعد الحديث بينهما حول الواجب، ولا الخلاف حول حقِّي وحقّك، فقد تجاوزا تلك الدائرة الضيَّقة بما بينهما من حُبّ ومودَّة، ونصَّب كلُّ واحد منهما نفسَه محاميًا عن الآخر، لا يسمح بعبارة لمزٍ أو عيبٍ تُقال في غَيبته، فإذا هما صورة لحياة زوجيَّة مثاليَّة!
مضت السُّنون، وتعاقبت المسؤوليات، وبدأت النُّفوس تضيق بصبرها، وتستسلم لكُفرانها، فتشتعل الخلافات مع الحوارات، ويبدأ مخزُون الحبّ بالتسرُّب والتبخُّر مع كل سلوكٍ يختلط بحظوظ النَّفس، والعناد، والرَّغبة في الانتصار، وهذا كلُّه يحدث في بيئة أسريَّة يكبر فيها الأبناء، وتعظم فيها المسؤوليات، وأسباب للنُّفور والصُّدود مع طبيعة الحياة وتقلُّباتها.. ثم يكون الطلاق من وجهة نظر الزوجين أو أحدهما هو الحلُّ الأمثل، وهو بصيص الأمل الذي يخرجهم من ضيق نفوسهم!
أيها القارئ الكريم.. هذا ما يحدث تمامًا إذا أبعدت بعض التفاصيل التي يُدَّعى أنها هي الأسباب الحقيقيَّة لكنك بعد التأمل تجد أنها تفاصيل تحدث في أغلب البيوتات وتمضي بسلام، فهي طبيعة المسؤوليات، وامتداد لطول العشرة وتطور المفاهيم والرَّغبات، وهذا ما يؤلم بحقّ! فإنَّ الطلاق بوجود سببه الحقيقي؛ نعمة من الله لبدء حياة جديدة، ولا أتحدث هنا عن الطلاق الذي يكون بابًا للحياة التي أظلمت بسبب الطرف الآخر؛ لسوء دينه أو خُلقه.
أتحدث هنا عند لحظة قرر فيها الزوجان أو أحدهما إنهاء تلك العلاقة بعد طول عِشرة، فطوى صفحة العشرة وألقى بها في مرامي النِّسيان، وتجاهل الماضي السعيد، والتَّضحيات التي قُدِّمت من أجل سعادته، فراح يُحاسب على لحظة آنيَّة بلغت فيها النُّفوس مبلغًا عظيمًا من الأنانيَّة والكُفران.. هنا أقول له -أو لها- ما ذكرنا الله به في هذا المقام: "ولا تَنسَوا الفضل بينكم"..
نعم، طالما هو طلاق فليكن "بإحسان"، وليكن: "سراحًا جميلاً"، ليحافظ كل طرف على أسرار علاقتهما، وتفاصيل حياتهما، ويشرع في بناء صورة ملائمة لتربية الأبناء بعد هذا الانفصال، لا أن يكون الهمُّ والجهدُ وقتئذٍ لتصفية الحسابات، ومحاولة أخذ الحقوق التي يدَّعيها كُل طرف!
"لا تنسَوا الفضل بينكم": لقد نشأ بسبب زواجكما بيت وأبناء، قرابةٌ ورَحِم، وكان كلُّ منكما يدَّعي التديُّن والأخلاق.. فها هي لحظة التطبيق الحقيقي لما ادعيتموه سابقًا!
إن لحظة الفراق والطلاق عند أهل الفضل والخُلق لحظة جبنٍ وألم، لحظة سترٍ وصفح، فكل منتصر في معركة كهذه خاسرٌ لا محالة! وصدق الرُّصافيّ إذ يقول:
وإنِّي جبَانٌ في فِراقِ أحبَّتي ... وإنْ كُنتُ في غيرِ الفِراقِ شُجاعَا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*باحث لغويُّ، وناشط اجتماعي