يقول: كنت طفلاً صغيراً في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات. كان والدي حين يذهب لعمله، يلبس زيًا رسميًا بدلة بلون كاكي (بيج غامق) بأزرار ذهبية وقبعة سوداء اللون. يخرج للعمل بدراجة هوائية (سيكل بيدل). كنت أراه ضابطًا كبيرًا، كان والدي يعمل ساعيًا للبريد يوصل الرسائل وفواتير استحقاقات الدولة من المواطنين. كنت أراه بهذا الزي ضابطًا كبيرًا وفي حقيقة الأمر كان رجلا بسيطًا فقيرًا.
أتذكر في هذا السن كنت كثير الحركة والشقاوة في المدرسة. ومن ذكريات الطفولة أتذكر يوماً وبختني مدرستي الرائعة لشقاوتي وأخذتني لإدارة المدرسة لتخويفي فقط. بكيت حينها وقلت لهم أنتم لا تعلمون من والدي ولو علمتم لن تتجرؤوا على توبيخي، وطلعت من المكتب. أبلغت والدي أن يأتي اليوم الثاني معي ليعاقبهم. كان والدي يتململ ويتحجج، وتحت إصراري وعدني بالمجيء.
ذهبت للمدرسة رافعًا رأسي فوالدي القائد سيأتي. ذهبت لمعلمتي وأبلغتها وأنا مزهو قلت سيأتي أبي اليوم، ابتسمت لي. لا أزال أتذكر تلك الابتسامة! ابتسامة رحمة ومحبة حينها جاء في بالي أنها ابتسامة خوف ومجاملة. يبدو أن معلمتي كانت تعرف والدي وعمله الحقيقي. علمت حينها أنها أبلغت الإدارة بما قلته عن مجيء والدي.
وصل والدي بدراجته وملبسه الرسمي. كنا في فترة الاستراحة، ذهبت مسرعًا احتضنته وذهبت معه إلى مكتب المدير وأنا في قمة الفخر. قام المدير ومساعديه من كراسيهم لاستقبال والدي سلموا عليه بحرارة: "أهلا بالعم فرج." أجلسوه وضيفوه. قالت لي معلمتي: "كلنا نحترم والدك." شعرت بالانتصار. خرج والدي من مكتب المدير وهو يسلم عليهم ويودعهم بحرارة ويقول لهم: "شكرًا شكراً" وهو مبتسم ابتسامة لم أستطع تفسيرها حينها.
حين كبرت علمت أن والدي كان موظفًا بسيطًا فقيرا محترمًا أمينًا. لم يكن ضابطًا كبيرًا، ومعلمتي وإدارة المدرسة يعلمون أن والدي العم فرج ساعي البريد المحترم. علمت حين كبرت أن لنا في مدرستنا مدير إنسان ومعلمات يحترمن ويرحمن البسطاء والضعفاء.
يا سادة، سيبدأ عام دراسي جديد. كل الأبناء ينظرون لآبائهم كمصدر فخر وقادرين على حل كل المشكلات، فلا تقللوا من الآباء أمام أبنائهم. قوموا برفع من قيمة الآباء أمام الأبناء. شكراً لمن يرحم ويحترم الضعفاء والفقراء. شكراً لمن يجبر الخواطر.