كانت القهوة منذ سنوات بعيدة مشروبًا شائعًا في المجتمعات العربية، لكنّها الآن تتجاوز ذلك لتصبح جزءًا من نمط الحياة اليومية لدى الأفراد، من دون أن يلتفت الكثيرون للتأثيرات الصحية والنفسية المترتبة على الاستهلاك المتزايد. في غرفة هادئة، ذات إضاءة ناعمة وقطع أثاث بسيطة تضفي دفئًا على المكان، جلستُ أعدّ لجلسة نقاش مفتوحة مع مجموعة متنوعة من الأفراد وخبراء الصحة، حيث يجمعهم اهتمام مشترك بمشروبهم اليوميّ الأكثر شيوعًا: القهوة.
الغرفة كانت تعجّ بأكواب القهوة المختلفة، موزعة على الطاولة الخشبية في منتصف المكان، بينما تزين الجدران لوحات فنية بألوانٍ هادئة؛ كل ذلك ليكون الجو أشبه بجلسة ودّية بعيدة عن الرسمية، حتى يساهم هذا الترتيب في كسر الحواجز ويمنح المشاركين راحة أكبر للحديث بانفتاح. كانت نبرة الحديث منذ البداية ودية، وقد بدأته بسؤال بسيط جعلهم ينسجمون بسرعة.
المحور الأول: بداية رحلة القهوة
توجهتُ لكل ضيف بسؤال شخصي حول اسمه وعمله، وكم كوبًا من القهوة يشربه يوميًا، ومتى بدأت عادته بشرب القهوة بانتظام. كانت هذه البداية بسيطة ولكنها كافية لإدخالنا في أجواء الحديث، إذ بدأ كلّ منهم يحكي عن تجربته وعلاقته بالقهوة. أخبرني أحدهم، وهو موظف في شركة، كيف كان يتناول القهوة كوسيلة للبقاء يقظًا في ساعات العمل الطويلة، بينما تحدث آخر عن القهوة كجزء أساسي في كل صباح، لا يمكن التخلي عنه بسهولة.
المحور الثاني: القهوة ما بين العادة والإدمان
انتقل الحديث تدريجيًا إلى سؤال حول تأثير القهوة على حياتهم اليومية، وما إذا كانوا يعتبرون القهوة عادة أم إدمانًا. في البداية، كانت الإجابات تتسم بالتردد، خاصة عندما طرحت كلمة “إدمان”، التي شعر البعض بثقلها. أعادت السؤال بصيغةٍ أبسط، سائلة عما يشعرون به في الأيام التي لا يتمكنون فيها من شرب القهوة. أشار البعض إلى شعور بالصداع أو نقص في التركيز، بينما اعترف آخرون بشعورهم بالانزعاج أو التوتر، مما جعلهم يتفقون على أنها ليست مجرد عادة عابرة.
المحور الثالث: الآثار النفسية والصحية
ومع تقدم الحديث، طرحتُ تساؤلات حول الآثار النفسية التي شعروا بها نتيجة الإفراط في شرب القهوة. تفاعل أحد المشاركين بحديثٍ صريح عن الأرق الذي أصبح يعاني منه، في حين تحدث آخرون عن ارتباط القهوة بشعورهم بالقلق أو التوتر. لم أكن أتوقع هذا الانفتاح، لكن يبدو أن الجو المريح شجّعهم على مشاركة تجاربهم بتلقائية، ما جعلني أطرح أمثلة حول تأثير القهوة على حالاتهم النفسية. لم يكن الحديث عن القهوة مجرد سردٍ للآراء؛ بل تحول إلى نقاش حول تجاربهم الشخصية مع محاولة تقليل الاستهلاك، وكيف أثّرت فيهم تلك التجارب. بعضهم نجح والبعض الآخر ما زال يحاول.
بينما كنتُ أعود إلى مكتبي، كانت الأفكار تتوارد إلى ذهني حول ما سمعته من المشاركين في الجلسة. أدركت أن القهوة لم تعد مجرد مشروب يرافق صباحاتنا، بل أصبحت جزءًا من ثقافة متنامية تؤثر على طريقة حياتنا وصحتنا النفسية والجسدية. بل وحتى الطقوس التي نؤديها لشرب القهوة - من اختيار أكواب خاصة واتباع عادات معينة - تضيف إلى تجربتنا مع القهوة طابعًا شخصيًا، وتعيد صياغة مفهوم الاستهلاك.
لكن خلف هذه التفاصيل اليومية البسيطة، يبدو أن هناك آثارًا عميقة تتجاوز المتعة اللحظية. فمع ارتفاع معدلات استهلاك القهوة في العديد من الدول العربية، نشهد تحولًا ملحوظًا في عادات المجتمعات. لبنان وقطر في مقدمة الدول التي ارتفع فيها معدل استهلاك الفرد إلى مستويات عالمية، حيث تشير الدراسات أن المواطن اللبناني يستهلك في المتوسط حوالي 4.1 كيلوجرام من القهوة سنويًا، بينما يصل المعدل في قطر إلى 3.9 كيلوجرام. ومن الواضح أن دول الخليج أيضًا تسير في نفس الاتجاه، مدفوعة بتوسع المقاهي وانتشار ثقافة "القهوة المتخصصة"، التي باتت تزين قائمة الطلبات اليومية للكثيرين.
هذا الارتفاع في الاستهلاك يقودنا للتساؤل: هل نحن أمام علاقة "حب" متجددة مع القهوة، أم أن ما نشهده هو نوع من "الإدمان المستتر" الذي تفرضه ضغوط الحياة اليومية والعمل المستمر؟ عندما سألت بعض المشاركين عما إذا كانوا يعتبرون القهوة إدمانًا، لم يكن الأمر سهلاً عليهم. القهوة بالنسبة لهم تتعدى كونها مشروبًا عاديًا؛ إنها رفيق يدعمهم خلال أيام العمل الطويلة، وهي ملاذ يلجأون إليه للهروب من ضغوط الحياة والبحث عن لحظة استرخاء.
وعندما طلبت منهم وصف مشاعرهم في حال لم يتناولوا القهوة يومًا، تكشّفت تفاصيل لافتة؛ منهم من يعاني من الصداع، وآخرون يصيبهم نقص في التركيز أو شعور بعدم الراحة، مما يعزز فكرة أن القهوة ليست مجرد عادة، بل أصبحت جزءًا أساسيًا من حياتهم.
ومن خلال الحديث عن تأثير القهوة على حالتهم النفسية، برزت مسألة التوتر والقلق كأحد الآثار الجانبية الشائعة للاستهلاك المفرط. بعض المشاركين اعترفوا بأنهم حاولوا تقليل الكمية اليومية من القهوة، إلا أن التجربة كانت صعبة، إذ يعودون إليها بسرعة. هذه النقطة تحديدًا أثارت اهتمامي، إذ يبدو أن هناك علاقة متشابكة بين القهوة وبين قدرتنا على تحمل أعباء الحياة اليومية، ما يفتح المجال لدراسة أعمق حول تأثير هذه العادة على صحتنا النفسية على المدى الطويل.
مع انتهاء هذا التحقيق، أدركت أن للقهوة حكاياتٍ تتجاوز ما نراه على السطح.
القهوة اليوم باتت تشكل ظاهرة ثقافية وصحية ونفسية تستحق الاهتمام والدراسة، لتفتح أبواب النقاش حول مزيج من العادات التي أصبحت جزءًا من تفاصيل حياتنا اليومية.