الشاعر عبد المنعم حسن، المنحدر من ربوع مكة الغرّاء، يقدم قصيدة فاتنة بعنوان: " توقيت مكة ".
يفتتح "منعم" -كما يحلو لي تسميته- أبياته بانسيابية شعرية مليئة بالروحانية والدهشة، التي لامست وجدانه بعد فراق طويل لمسقط رأسه- مكة المكرمة -. يتنقل الشاعر "منعم" عبر مجازات واستعارات تستلهم النشأة الأولى والانتماء المتجذر في أعماقه، وهو مما أضفى على النص عمقًا روحانيًا وإنسانيًا فريدًا. المتأمل في النص يجد تركيزًا واضحًا على استحضار البقعة المقدسة، إضافة إلى الأبعاد التاريخية لمكة المكرمة، كما يظهر في إشاراته إلى (إبراهيم -عليه السلام-، بطحاء مكة، الأخشبان، أجياد، الصفا والمروة) وغيرها.
في هذه السانحة، أحاول قراءة بعض هذا الارتقاء الروحاني والوجداني الذي قدمه الشاعر الإنسان "منعم".
المطلع: "صخّابة"
يستهلُّ "منعم" قصيدته بمطلعٍ آسر: "صخّابة"، على وزن (فعّالة)، ولاشك أن الكلمة توحي بقوة تُعبر عن صرخة عميقة في وجدان الشاعر. والمطالع الشعرية توصف غالبًا بأنها "إما أن تأسر القارئ أو تدفعه لترك النص"، وهنا نجد أن الشاعر نجح في أسر القارئ من البداية بهذا المطلع الباذخ. هذا المطلع ليس مجرد تعبير شعري بل هو تجربة وجدانية نقلت لنا مشاعر مكثفة امتلكت الشاعر.
يستكمل الشاعر هذا البعد الروحي بالقول : "تنداح في صخب"، ليخلق تقاطعًا جماليًا بين الإحساس بالامتداد (تنداح) والحركة الصوتية (صخب). هذا الجمع بين الأبعاد الحسية والزمانية يُظهر قدرة فنية على تكثيف الصور الشعرية.
الرمزية العميقة في النص.
في استخدامه لعبارة "الدوارق"، يشير "منعم" إلى بعدٍ رمزي يعبر عن مشاعره الجياشة التي تتدفق كالماء القراح الخالص. أما قوله "نجوى الغيب للحقب"، فهو استدعاء روحاني للأسرار والهمسات غير المشاهدة، مما يضفي على النص بُعدًا تأمليًا يعبر عن فكرة الخلود الزمني في ارتباطه بمكة.
الهوية والانتماء المكاني
يتكرر في النص ذكر الأماكن المكاوية الأصيلة (شارع المنصور، المصافي، أجياد، المعلاة، الحجون، الشرائع، القرارة). هذه المواقع ليست مجرد أسماء جغرافية، بل هي محطات شكلت شخصية الشاعر، كما يبرز ذلك في قوله: "كالأخشبين.. رسا جذري". هنا نجد تشبيهًا دقيقًا يعكس عمق الانتماء والارتباط بمكة باعتبارها مسقط الرأس ومرابع الصبا.
مكة كأم روحية
يظهر "منعم" مكة كرمز للأم الروحية، حيث نجد الإشارة إلى "اليد الخضراء"، التي ترمز إلى النماء، و"الهجير" الذي يعبر عن تحديات الطقس المكي، مما يعكس التحديات التي تصقل الهوية. كما نجد استدعاءً للصفا والمروة في دلالة جميلة على ارتباطه بالحرم المكي الشريف.
الوفاء لذكريات الوالدين
من أكثر الأبيات تأثيرًا ذلك الذي يفيض بالعاطفة عند حديثه عن مدفن والديه في مقابر المعلا. في هذا المقطع، نجد وفاءً عميقًا وارتباطًا وجدانيًا بالذكرى والبقعة المقدسة، مما يعكس حبًا عميقًا ووفاء نبيلًا لذكراهما.
خاتمة
بهذه القراءة الخاطفة، يتضح أن الشاعر "منعم" لم يقتصر على وصف مكة كموقع جغرافي، بل نقلها إلى مستوى تتقاطع فيه الأزمنة والأجيال، حيث تنصهر الذات الشاعرية مع التجربة العريقة.
وهذا أمر عوّدنا عليه الشاعر عبدالمنعم حسن.