قد منّ الله علينا إذ جعلنا نعيش هذه الرفاهية في عصرنا الحالي، رغم كل هذه الإضطرابات التي تحيط بنا، إلا أننا في أكثر العصور أمانا ورخاءً حتى مع الدماء المتناثرة في كل مكان .. فالحمدلله على نعمه الظاهرة والباطنة..
لم يعد الإنسان بحاجة ليركض خلف غزال للغداء، ولا يحتاج لسهم أو قوس لاصطياد طائرٍ للإفطار، أصبحت كل هذه الوجبات على بعد ضغطة زر حتى تتشكل وفق رغباتنا، مشويّ أم مقليّ، صدر أم فخذ، سبايسي أم عادي، “إني خيرتُك فاختار” كما قال نزار ..
حين وقفتُ في اشارة المرور، لفت نظري مندوب التوصيل وهو على دراجته النارية ! درجة الحرارة تقارب 90 درجة، وكأننا على فوهة بركان ثائر، كل شيء حولنا كان يغلي. كنت استمع لأنين المركبات وهي تحاول تبريد راكبيها، في تلك اللحظة يود المكيف أن يصرخ:”إرحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء”..
نظرت للمندوب وإذا به يعتمر خوذة النجاة، التي تتحول في ذاك التوقيت لـ “ساونا” متحركة، يلبس دروع تقيه من الحوادث وكأنه محارب في جيش الفرنجة، حيث تحجب دروعهم كل شيء سوى أعين المقاتل، هذا المندوب مقاتل أيضاً لكن للقمة العيش.
يا شركات التوصيل، ألا يمكن لهؤلاء التوقف عن العمل في الساعات الحارقة ! لحظة .. وحده المجنون من يقرر الوقوف أمام عجلة الرأسمالية، التي ستدهس كل من في طريقها.
الأمر الجيّد في تطبيقات التوصيل أن بإمكانك منح العامل “بقشيشاً” يسعده ويخفف عليه وطأة الحرّ الشديد، بإمكانك أن تقدم له كوب ماء بارد حين يصلك، امتناناً لرحلة الشتاء والصيف التي يقطعها آتياً بطعامك وأنتَ على فراشك الوثير..
أتساءل .. هل يقع علينا اللوم نحن المرفهين؟ أم على شركات التوصيل التي لم تترفق بعامليها؟
فكّرت وقلت: لم لا تمنح شركات التوصيل عمولةً إضافية على الطرود التي تكون في هذه الأوقات الحارّة ؟
ثم فكرت وقلت: لم لا يكون سعر التوصيل في هذا الوقت مرتفعاً فيحفز الناس على الذهاب لمطابخهم المهجورة؟
ثم عصرت عقلي وقلت: لم لا تكون هناك نقاط توزيع مياه من شركات التوصيل لمناديبها؟
ثم استقرت نفسي عند قوله تعالى:(لايكلّف الله نفساً إلا وسعها)
العجيب في الأمر، أنني قرأت مقالاً يشتكي كاتبه من خطورة التوصيل في الظهيرة، وأن الشمس سترسل موجاتٍ كهروشمسية تتفاعل مع البلاستيك وتؤثر على جودة الأكل وربما تؤدي الى التسمم! الغريب قوله أن مندوب التوصيل يتحمل وزر هذا الأكل إن لم يغلفه بشكل صحيح، ويجب أن تُطبق عليه أقصى العقوبات في حال لم يلتزم بقوانين السلامة.. قلت في نفسي (كلّا إن الإنسان ليطغى، أن رآه استغنى).




