سنظل نكتب على الدوام عن ذكرى نصر حرب السادس من أكتوبر 1973 العظيم... ولن تتوقف أقلامنا ما دام هناك نفس وروح منتصبة تفاخر بذكرى خالدة في وجدان الضمير الجمعي المصري والعربي، وما دام هناك عقل يفكر وقلب ينبض بعزة وكرامة عند كل عربي حر.
ولمن يسأل لماذا نكتب كل عام عن ذكرى حرب أكتوبر، ذكرى العبور العظيم للجيش العربي المصري الذي حطم خط بارليف المنيع والحصين، ودك الأسطورة التي لا تُهزم، وسحق جيش كيان الدفاع الإسرائيلي المتغطرس، وذلك في ست ساعات بفضل من الله أولاً، وبفضل خطة الخداع الاستراتيجي والخطة العسكرية المحكمة لجيش عظيم وقيادة خططت باقتدار، فتحية لجيش أكتوبر وأبطاله جيش خير أجناد الأرض، والتحية لجيل أكتوبر وللشعب العربي المصري وللاصطفاف العربي، وتحية خالدة لشهداء أكتوبر ولأرواحهم الطاهرة الخلود في جنات النعيم.
نعم، نحن نكتب للأجيال ونقول لهم:
الأقوياء هم دوماً من يصنعون التاريخ والتحولات العظيمة... الأقوياء وحدهم من يمتلكون الإرادة ويعبرون المستحيل ويخترقون المدى، وتجدهم يواصلون الاندفاع الجيد، يحطمون الأساطير بالعلم والإيمان، يدمرون حصون الأعداء، وهم من يمتلكون يقين الواثق ويحملون بشائر الأمل، ويرسمون ابتسامة النصر، ويكتبون التاريخ. وليسجل التاريخ المعاصر أول انتصار للعرب على اليهود الصهاينة، ويدون في السجلات وفي أنصع صفحات التاريخ العسكري المعاصر، والتي ظلت مراكز البحوث والأكاديميات العسكرية في أنحاء العالم تبحث وتدرس وتعلم ذلك الدرس العظيم للجندي العربي الجسور والمقدام حين تتوفر له الإرادة السياسية والعسكرية.
ليكن قرار الحرب للبطل القائد العربي والرئيس المؤمن لجمهورية مصر العربية الرئيس الراحل محمد أنور السادات رحمه الله واحداً من القرارات التي أذهلت العالم وغيرت موازين القوى بعد نكسة الجيوش العربية في الخامس من حزيران / يونيو 1967.
وهنا لابد لي أن أسجل كل الاحترام والتقدير والشكر للرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، الذي أشار في كلمة وجهها للشعب المصري العظيم إلى نقطة مفصلية وعظيمة هامة:
"أن الشعب المصري فعلاً كسر حاجز الخوف وأظهر التحدي العظيم رغم النكسة، في اللحظة التاريخية التي تمثلت في رفض تنحي الرئيس الخالد جمال عبدالناصر. وكانت أول خطوات تشكيل جبهة الردع للعدو المتغطرس".
نعم، فقد أصاب القول الرئيس السيسي حينما أنعش الذاكرة العربية الجمعية التي أراد كثيرون من أقلام السوء حرفها وتجهيل عظمة ودور شعب مصر العظيم وقياداته التاريخية العظيمة.
نعم، قاوم الشعب المصري العظيم وتحمل، وبادر جيشه العظيم الذي استعاد عافيته في وقت وجيز، ورغم المعاناة، لكنه وجه للعدو الإسرائيلي ضربات في العمق بما سمي بحرب الاستنزاف التي جرت لسنوات ما بعد النكسة، والتي تعد أول جولة حرب تخسرها إسرائيل مع العرب.
وهنا علينا التذكير بأبرز ما أحدثته هذه الحرب، كتدمير الضفادع البشرية المصرية لإيلات، وما أدراك ما إيلات، وكذلك بناء حائط الصواريخ لصد طيران العدو الإسرائيلي.
ونستذكر هنا يوم 30 يونيو 1970، حين تم إسقاط طائرتين وأسر ثلاثة طيارين، وبعدها تم إسقاط 12 طائرة إسرائيلية وأسر عشرات الطيارين، وسمي ذلك الأسبوع في الصحافة "أسبوع تساقط الفانتوم".
وبحرب الاستنزاف الرادعة هرولت إسرائيل إلى واشنطن لتأتي بمبادرة عرفت باسم وزير خارجية أمريكا "روجرز" تطلب فيها وقف إطلاق النار عام 1970.
لقد بُنيت الخطة المصرية على الخداع الاستراتيجي وعنصر المفاجأة والمباغتة، وتحطمت قوات العدو أمام شجاعة المقاتل المصري.
وحرب أكتوبر عنوان وتاريخ نصر وفخر للقوات المسلحة المصرية، وملحمة عظيمة للشعب المصري والعربي.
فشجاعة الجندي المصري وانضباطه وعزيمته، وكذلك عبقرية العقلية العسكرية المصرية، صنعت ملحمة العبور لخط بارليف وتحرير صحراء سيناء العربية التي ظلت إسرائيل تحتلها منذ النكسة 1967.
حيث كانت ساعة الصفر لتلك الملحمة العربية الخالدة حين أقلع الطيران المصري بـ 222 طائرة في الساعة الثانية ظهراً من نهار يوم السادس من أكتوبر 73 الموافق العاشر من رمضان، في ظل تمهيد ناري للمدفعية المصرية بـ 2000 مدفع، والذي يعد أقوى عملية تمهيد ناري في التاريخ، وفي 53 دقيقة، بينما كان الطيران يدك تحصينات وخطوط العدو بكفاءة عالية بقيادة اللواء محمد حسني مبارك رحمه الله عليه، لتزحف كل قطاعات الجيش الثاني والثالث وبمختلف صنوف الأسلحة.
حيث بدأت موجات العبور الأولى للمشاة الساعة 2:20، ولتكتمل موجات العبور الثمان الساعة 4:30، وفرق سلاح المهندسين تخترق الساتر الترابي، الأسطورة الإسرائيلية، وتعبر القوات المصرية إلى الضفة الأخرى، وبلغ عددهم 80 ألف جندي و1000 دبابة مصرية لتهزم الجيش المتغطرس.
وقد ظهرت تلك الهزيمة بساعات قليلة على وزير دفاع الكيان الصهيوني حينها موشي ديان ورئيسته جولدا مائير، وسجلت الكاميرات في تلك الأيام المجيدة هلع كل الشعب الصهيوني بأكمله وهروبه إلى أوروبا ونواحهم بالاستنجاد بأمريكا الصهيونية لإنقاذهم، والتي عملت جسراً جوياً أمريكياً لكي توقف ذلك الزحف العظيم.
ولتسمع عويل المندوب الإسرائيلي في الأمم المتحدة الذي يطلب حماية وإحلال السلام، حيث بلغت خسائر إسرائيل كبيرة، أكثر من 3000 دبابة وعشرات البطاريات وأسرى وقتلى بالعشرات، ولتسيطر القوات المصرية على 10 كيلومترات من الضفة الأخرى بساعات.
درس من الدروس الحربية العربية المشرفة، وقد قرأت في عديد من المجلات والصحف عدداً من التقارير والوثائق التي تؤكد المشاركة العربية المتمثلة بالجيش الأول، الجيش العربي السوري، وكيف استمات في جبهته ولقن العدو دروساً على طول الجبهة، ومنها ملحمة القنيطرة، وكان ذلك في عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد رحمه الله.
وذكر أيضاً مشاركة رمزية لعدد من الجيوش العربية، ليثأر العرب بقيادة الجيش العربي المصري البطل.
وقد كشفت لنا خلال العقود الخمسة من الزمن تفاصيل تلك الحرب صوتاً وصورة، والتي عمل الكيان الإسرائيلي ومخابراته وزبانيته في الشرق الأوسط والعالم على تزييفها وتمييع تلك الملحمة.
وستبقى ذكرى نصر أكتوبر محفورة في الذاكرة الجمعية العربية، وها نحن اليوم، وبعد 52 عاماً، لا زالت تلك الصور والملحمة العظيمة للجندي العربي المصري الباسل في سيناء، حاملاً للآر بي جي والسلاح الآلي، وهو يطيح بدبابة أمريكية الصنع، وكيف هبط رجال الصاعقة لجيش مصر العظيم، رجال المظلات، خلف خطوط العدو داخل سيناء، وصور كيف اجتاز خير أجناد الأرض خط بارليف المنيع، وما أدراك ما بارليف، وكيف عبرت دبابات البرمائيات خفيفة ومتوسطة وثقيلة، وكيف استولى الجندي العربي على الدبابات الإسرائيلية واعتلاها، وكيف تخلى العدو عن جثامين جنوده وغطوها بالعلم الصهيوني في صحراء سيناء، على الرغم من الأوامر المشددة لديهم بأن يحملوها إلى القدس ليباركها الحاخامات.
تركوها بسبب المباغتة والإقدام لجند مصر ذوي العزيمة والإيمان والإرادة والتضحية من أجل استرداد الأرض المغتصبة، وسيبقى كذلك شريط الصور لطوابير عشرات الأسرى اليهود وأيديهم فوق رؤوسهم وهم في قبضة الجندي المصري.
كل تلك الصور مدعاة فخر وعزة وكبرياء، عبرت بحق عن قدرة الجندي العربي حينما تلتحم الإرادة العربية في خندق واحد.
ملحمة عربية عظيمة لا زالت ساكنة في العقول والأفئدة وفي الضمير الشعبي العربي الجمعي من المحيط إلى الخليج.
وأن ما أُخذ بالقوة يُسترد بالقوة.
اليوم، ونحن نحتفي بالذكرى الـ 52، أقول وبصراحة ومن نبض قلوبنا: سيظل الجيش العربي المصري العظيم وقيادته الحكيمة اليوم، التي خاضت خلال عقد من الزمن منذ عام 2013 حرباً شرسة في سيناء وغيرها ضد الإرهاب الدولي المتصهين والمغلف بالصبغة الإسلامية، وبفضل الله وصمود الجيش والشرطة والشعب وتضحياتهم الجسيمة، نستطيع القول إن الشعب والجيش المصري العظيم هو الضمانة الحقيقية لعمود الخيمة وحامياً لها، خصوصاً أنه أدرك وتخلص من السرطان المزروع في جسد الأمة لسنين عجاف.
فتحية إجلال لجيش العبور، ولقادته العظام فرداً فرداً، وتحية للجيش المصري اليوم الذي صحح وطهر المرحلة المعاصرة في مصر من الوباء الخبيث.
وأختم بالتهنئة للجيش المصري العظيم وقيادته الرشيدة بذكرى نصر أكتوبر 1973 الثانية والخمسين...
وأستحضر هنا للأجيال ما قاله بطل الحرب والسلام الرئيس المؤمن الشهيد أنور السادات بعد الانتصار العظيم:
"إن قرون الهزيمة والتخلف قد انتهت، وأن القوات المصرية والسورية ومن خلفها الشعوب العربية قد حققوا أول نصر حقيقي للعرب... إن القوات المسلحة المصرية قد قامت بمعجزة على أي مقياس عسكري، وإن هذا الوطن يستطيع أن يطمئن بعد اليوم، فقد أصبح له درع وسيف."





