الحياة تشبه قطارا في رحلة طويلة، ويمر قطارنا بمحطات تتبدل فيها الوجوه كما تتبدل الفصول، وتختلف فيها السرعات كما تتغير الإيقاعات، لكن الاتجاه واحد لا عودة منه، فمنذ الصرخة الأولى، يولد الإنسان مسافرا لا يعرف وجهته، ولا ما الذي ينتظره في نهاية الرحلة، وكل ما يعرفه أنه مدفوع بتيار خفي إلى الأمام، وأنّ عليه أن يتعلم في كل محطة درسا جديدا في الوجود.
نحن الآن في محطة الطفولة، وهنا يبدو العالم كحديقة ممتدة من الضوء والدهشة، تتسع لكل ما يمكن أن يحلم به الخيال؛ فهي المرحلة التي تتفتح فيها أولى بذور الإدراك، ويكتسب فيها الطفل حس الانتماء والأمان؛ فالنفس هنا كالمرآة الصافية، فما تعلمته في الصغر انطبع نقشه في الكبر، فالطفولة ليست زمنا للعب فقط، بل هي جذر الشخصية ومصدر ثقتها بالعالم.
في هذه المرحلة يتعلم الإنسان لغة العاطفة قبل لغة الفكر، فيحيا من خلال الإحساس لا التحليل، وإذا ما كانت الطفولة دافئة آمنة، نما منها وعي متوازن قادر على الحب والعطاء، أما إذا غابت عنها الطمأنينة، فقد تتشكل النفس على قلق خفي يرافقها في كل مراحل العمر، وهكذا تؤسس الطفولة لبنية الإنسان الداخلية، فهي ليست بداية الرحلة فقط، بل هي الخريطة التي تهديه في دهاليزها اللاحقة.
في محطتنا الثانية ينطلق القطار نحو الشباب، حينها تبدأ الموجة الأعنف في بحر الحياة، حين يكتشف الإنسان ذاته في مواجهة العالم، وتتصارع داخله الرغبة والمبدأ، والواقع والحلم، فهي مرحلة الحماسة والخيبة، الاندفاع والندم، والبحث المستمر عن معنى يقنع الروح، فمن عرف نفسه فقد عرف نظام الكون؛ إذ إنّ الشباب هو زمن الاكتشاف الذاتي بامتياز، إذ لا يمكن للإنسان أن يعرف العالم ما لم يعرف نفسه أولا.
في هذه المرحلة الشبابية، تتساقط كثير من الأقنعة والصداقات الزائفة، وتبدأ النفس في تمييز من يشاركها المعنى ممن يقتات على حضورها دون أن يمنحها عمقا، فبعض الرفاق يشبهون محطات عابرة، يرافقوننا في مقطع قصير من الطريق، ثم يغادرون حين ينادي القطار بمحطة الوعي التالية، إن سقوط الصداقات غير المفيدة ليس خسارة، بل شكل من أشكال النضوج الوجداني. فكما قال ابن رشد إن الصديق مرآة صادقة، فإن لم يعكس صورتك صادقا فهو غبار على المرآة، وهكذا يتعلم الشباب أن النقاء في العلاقات أهم من الكثرة، وأنّ الرفقة التي تضعف الإرادة ليست صداقة، بل قيدا لطيفا على الروح.
حين تهدأ السرعة، يدخل القطار محطة الثالثة وهي مرحلة النضج، وهنا يصبح الإنسان أكثر هدوءا، وإدراكا لمعنى الاختيار، وأقل انفعالا أمام تقلبات الطريق، حيث يبدأ بمراجعة ذاته لا ليؤنبها، بل ليفهمها، فيتعلم أنّ كثيرا مما خسره لم يكن له أصلا، وأن بعض الذين ابتعدوا إنما كانوا عبورا مؤقتا لا إقامة دائمة.
في هذه المرحلة، يكتشف الإنسان أنّ النضج لا يعني كثرة المعرفة، بل عمق الفهم، وتتساقط رغباته الفوضوية لتحل محلها رغبة في الاتزان والسلام؛ إنها مرحلة الانعطاف نحو الداخل، حيث يصبح السكون أداة للتأمل، ويغدو الصمت لغة الحكمة.
وفي النضج كذلك، يعيد الإنسان ترتيب دوائر القرب، فيبقي حوله من يمنحه طاقة ايجابية، ويتخفف من الذين يستهلكونها بلا جدوى، أصحاب الطاقات السلبية. لقد بات المرء في هذه المحطة يدرك أن العلاقات مثل الكتب، منها ما يقرأ مرة واحدة، ومنها ما يستحق أن يعاد قراءته ألف مرة.
وحين يقترب القطار من محطة الكهولة، تتراجع الضوضاء، ويعلو صوت الوعي الداخلي، إذ لم يعد الإنسان يسعى إلى إثبات ذاته، فقد أدرك أن المعنى الحقيقي لا يحتاج إلى جمهور، ويصبح الانسان حينها أكثر تصالحا مع الزمن، وأكثر تقبلا لفكرة التناقص الهادئ في كل شيء.
في الكهولة، تتكثف الذاكرة، ويتحول الحنين إلى نوع من الحكمة الهادئة، ويعي الإنسان أن من لم يفهم مغزى الفقد، لم يدرك جوهر الوجود، فمن فقد شيئا أدرك سر ثبوته في الباطن؛ فالزمن لا يسلبنا، بل يعيد تعريفنا في كل مرة، ويمنحنا القدرة على رؤية المعنى في تفاصيل لم ننتبه إليها من قبل.
فالصداقات التي تبقت في هذه المرحلة ليست كثيرة، لكنها صافية، ولم تعد تقاس بالعدد، بل بالصدق والعمق، ومن يتبقى في هذه الدائرة الضيقة يصبح مرآة للذات في أصفى حالاتها، رفيقا لا لمصلحة أو عادة، بل لأنّ الأرواح التقت في نضجها الأخير كما التقت في براءتها الأولى.
وحين يقف القطار في المحطة الأخيرة، يدرك الإنسان أنّ كل المراحل السابقة في محطات قطارنا كانت وجها واحدا لحقيقة واحدة، وهي أنّ الحياة لم تكن بحثا عن محطة الوصول، بل عن فهم الرحلة نفسها.





