عندما كنت طالباً في سنتي الجامعية الأخيرة في جامعة الإمارات عام ١٩٨٨، خلال دراستي في الهندسة الكيميائية والبترول، قررت أن أعيش تجربة مختلفة في رحلتي الصيفية إلى الجامعة الأردنية. اخترت السفر بالسيارة بدل الطائرة، مدفوعاً بروح المغامرة وحب الاكتشاف. انطلقت من عجمان باتجاه عمّان مروراً بالمنطقة الشرقية في المملكة العربية السعودية، وكانت تلك أول مرة أصل فيها إلى الأحساء.
وصلتُ إلى المدينة ليلاً، وتاهت بي الطرقات في غياب اللوحات الإرشادية، بينما كانت العواصف الرملية الناعمة تهاجم الطريق فجأة. كانت سيارتي الخفيفة ترتفع وتنخفض مع الرمال وكأنني أبحر فوق أمواج صامتة في صحراء هادئة. لم تتح لي فرصة للتجول أو التعرف على تاريخ الأحساء يومها.. لكن ذلك اللقاء الأول ظلّ عالقًا في الذاكرة كصفحة لم تُكمل بعد.
بعد ثلاثين عامًا، في ديسمبر ٢٠١٨، قُدّر لي أن أعود إلى الأحساء من جديد ضمن جولة علمية استكشافية بدعوة من الجمعية الجغرافية السعودية لمشروع الخرائط الإلكترونية، وبرعاية شركة عالمية للخَرائط من هولندا، وبمشاركة نخبة من علماء الجغرافيا والطبيعة والتاريخ من عدة جامعات سعودية. كانت تلك الزيارة مختلفة تماماً. رأيت مدينة تنبض بالحياة، وقرًى متجددة، وناساً يحملون روحاً منسجمة مع المكان. استفدت من خبرة الصحبة الطيبة، وتعلمت منهم تراث المنطقة وعلومها وطبيعتها، ودهشتُ من عمق الانسجام بين مختلف المذاهب والأطياف فيها.
ثم جاءت زيارتي الثالثة للأحساء في نوفمبر ٢٠١٩ للمشاركة في مؤتمر الأحساء للسياحة العربية، بتنظيم من الجمعية الجغرافية السعودية وبالتعاون مع كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. وكانت الأحساء قد اختيرت حينها عاصمة للسياحة العربية لما تحمله من إرث عمراني وواحات غنية بالنخيل والماء، ولانضمامها إلى شبكة اليونسكو للمدن الإبداعية في مجال الحرف اليدوية والفنون الشعبية.
تجوّلنا بين سوق القيصرية، والمدرسة الأميرية، ومدرسة القبة العلمية والشرعية، وصلينا في مسجد الجبري، وزرنا رباط الشيخ بوبكر بالكوت، وقصر إبراهيم، وبيت البيعة. وكانت من أعظم اللحظات زيارتي لمسجد جواثا، الذي بُني في عهد رسول الله ﷺ على يد بني عبد قيس، الذين أسلموا طوعًا لا كرهًا. وقد مدحهم النبي ﷺ بقوله: “أكرموا إخوانكم فإنهم أشبهُ الناسِ بكم، أسلموا طوعًا لا كرهًا”.
الأحساء.. جغرافيا الماء والظل والإنسان
اسم الأحساء مشتق من “الحِساء”، أي العيون المائية الغزيرة. وهي بحقّ إحدى جنان الصحراء، تضم أكبر واحة نخيل في العالم، وتحيط بها بحار من الرمال جعلت منها موطنًا للحياة في قلب الصحراء. هي واحة الوئام التي يجد فيها الزائر راحته وانسجامه منذ اللحظة الأولى.
موقعها الجغرافي ومواردها الطبيعية جعلاها محطة للحضارات التي سكنت أرضها عبر التاريخ، ومركزًا للقوافل التجارية العابرة. وهي اليوم نموذج للانسجام الإنساني والتعايش بين مختلف المذاهب والأطياف، حيث يشع الكرم من بيوت أهلها، والعلم من مدارسها، والعطاء من نخيلها، والعذوبة من ينابيعها.
وتحت أرضها يكمن أكبر حقل نفطي في العالم—حقل الغوار—الذي ينتج أكثر من خمسة ملايين برميل يومياً، بما يعادل ٦،٢٥٪ من الإنتاج العالمي.
علاقتي الشخصية بالأحساء وأهلها
لم تكن زياراتي للأحساء مجرد محطات دراسية أو مشاركات علمية، بل تحولت مع الزمن إلى علاقة وجدانية تربطني بأهلها قبل أرضها. وجدت في الإنسان الأحسائي صفاءً يشبه صفاء ينابيعه، وكرماً يشبه عطاء نخيله، وهدوءاً يشبه سكون واحات الفجر.
أهل الأحساء يشبهون نخيلهم
ثابتون في جذورهم، كرماء في عطائهم، شامخون رغم رياح الزمن.
كوّنت هناك صداقات لا تشبه غيرها—علاقات قائمة على الصدق، والوفاء، والمودة. كل لقاء كان يزيدني قرباً، وكل زيارة كانت تعمّق إحساسي بأنني لا أزور مدينة.. بل أزور أهلي.
تعلمت من أهل الأحساء أن الأصالة ممارسة لا خطاب، وأن الكرم لا يقتصر على الضيافة بل يشمل الوقت والعلم والاهتمام، وأن الوئام أسلوب حياة يعيشه الناس بصدق ومحبة.
الأحساء بالنسبة لي لم تعد جغرافيا، بل قصة حب إنسانية وروحية تعيد للروح صفاءها كلما وطئت قدمي أرضها.
الأحساء والسياحة البيئية
في مشاركتي بمؤتمر السياحة العربية قدمت تجربتي عن السياحة البيئية وأثرها في تعزيز الوعي البيئي وتغيير السلوك من خلال الرحلات الطبيعية، وقد عرّفت السياحة البيئية بأنها السفر إلى المواقع الطبيعية غير الملوثة بهدف الترويح والتمتع بالمناظر الخلابة من أشجار ونباتات وطيور وحياة برية—من دون إحداث أي ضرر أو تدخل يؤثر على توازن الطبيعة.
ورغم جمال هذا النوع من السياحة، إلا أنه يواجه تحديات عدة مثل زيادة الزوار، والضغط المتزايد على الموارد الطبيعية، وتأثيرات التغير المناخي. ولنجاح السياحة البيئية، نحتاج إلى وعي يحترم الموارد، ويدرك قيمتها، ويسعى لاستخدامها بشكل مستدام يجعلها مصدراً للخير والتنمية والاتصال بالبيئة.
والأحساء نموذج حيّ لكل ذلك: تنوّع طبيعي، وانسجام إنساني، وتوازن بين الإنسان والطبيعة، وواحة تُعلّمك أن الوئام سرّ البقاء والنجاح.
الأحساء ليست مدينة تُزار.. إنها روح تُعاش.
وهي ليست واحة في جغرافيا المملكة فقط، بل واحة في جغرافيا القلوب. فيها يتجلّى الوئام، ويترسّخ الانتماء، ويكبر الإنسان بأهله وأرضه وتاريخه، وفي كل مرة أغادرها.. أعلم أنني سأعود إليها، لأن الأماكن التي تُشبه الروح لا تُغادر الذاكرة.
بقلم الشيخ الأخضر.. هو عبدالعزيز بن علي بن راشد النعيمي، أحد أفراد الأسرة الحاكمة في إمارة عجمان بدولة الإمارات العربية المتحدة، وقائد بيئي عالمي كرّس حياته لفهم الإنسان وارتقاء روحه، وحماية البيئة وصون مواردها.
يمضي في رحلته بفكرٍ مُستنير ورسالةٍ تتجاوز الحدود، لإثراء الإنسان وتنمية قدراته، ولتعزيز الوعي الذي يوازن بين التطور والحفاظ على كوكب الأرض.
يرى أن الاستدامة ليست مجرد مفهوم، بل هي أسلوب حياة يقوم على الامتنان والبساطة والتوازن. ويؤمن أن تمكين الشباب هو الاستثمار الحقيقي لمستقبل الأمم، وأن الإحسان والوئام قيمتان قادرتان على توحيد القلوب وبناء جسور التفاهم بين الشعوب والحضارات.
رؤيته ترتكز على بناء الإنسان، وتمكين الأجيال، وتخضير المكان، وصناعة إرث الزمن.. رؤية تُلهم، وتغيّر، وتُحدث اثراً عابراً للأزمنة، تُشعل في الآخرين روح العطاء، وتُذكّرهم بأن أعظم الأثر هو ما يتركه الإنسان في النفوس قبل الأماكن.
▂▂▂▂▂▂▂▂▂▂▂
كتبه / ✍🏻
الشيخ الأخضر..
سمو الشيخ عبدالعزيز بن علي بن راشد النعيمي، أحد أفراد الأسرة الحاكمة في إمارة عجمان بدولة الإمارات العربية المتحدة، وقائد بيئي عالمي .




