في عالم الإدارة، لا شيء أشدّ فتكًا بروح العمل ولا أعمق أثرًا في تقويض البنية التنظيمية من المركزية المفرطة؛ تلك التي تُمسك بخيوط كل شيء، وتُقصي كل من سواها، وتتعامل مع المسؤولين المكلّفين كما لو كانوا مجرد ديكور إداري بلا سلطة ولا رأي ولا قيمة. إنها مركزية تُطفئ الحماسة، وتكسر المبادرة، وتحول القادة إلى متلقّين يترقبون التعليمات، بدل أن يكونوا صُنّاع قرار وشركاء في الرؤية.
ومن المؤسف أن هذا النمط – حين يتسلل إلى بيئة العمل – لا يكتفي بإرباك المنظومة، بل يمتد أثره إلى النفوس، فيزرع الإحباط، ويولد الشعور بالإلغاء، ويضرب صميم الثقة بين الإنسان وموقعه ومسؤوليته.
لقد علّمتنا "الكشفية" منذ البدايات أن القيادة ليست صوتًا مرتفعًا، ولا قرارًا منفردًا، ولا سلطة عابرة؛ بل هي سيرٌ منظم يقوم على وضوح المهام، واحترام التسلسل، وتمكين كل فرد من أداء دوره ، علّمتنا أن القائد ليس من يُمسك بكل شيء، بل من يؤمن بأن في الفريق عقولًا وقدرات وطاقات تستحق أن تُمنح فرصة العمل، وأن تُحمَّل مسؤولية القرار.
إن من تربى في الكشافة يدرك أن إلغاء دور المسؤول طعنٌ في صميم الروح الكشفية ، فالتسلسل القيادي ليس ديكورًا تنظيميًا، بل هو قيمة أخلاقية تحافظ على الانسجام وتضمن كفاءة الأداء. ولذلك كنت – وما زلت – ممن يفضّلون تفويض العمل لأهله، وتمكين من تم تكليفه، وفتح المجال له ليبدع، ثم المتابعة بالحوار، والمشورة، وتبادل الرأي، وتقديم الملاحظات بروحٍ بنّاءة تحفظ قدر الإنسان وتزيده قوة.
قد يكون للإنسان حسن نية حين يتدخل، وقد يظن أن تدخّله واجب أو ضرورة، لكن الأثر لا يُقاس بالنوايا؛ فكم من تصرّف ظن صاحبه أنه إصلاح، فجاءت نتائجه إفسادًا، وكم من كلمة خرجت بحُسن مقصد فجرحت، وأضعفت، وربما عطّلت مسار عمل كامل.
وأسوأ ما في الأمر أن يقوم شخصٌ ما – دون سبب واضح أو مبرر مقنع – بـ تهميش مسؤولٍ مثله، أو القفز فوق دوره، أو إلغاء وجوده. فهذا ليس مجرد خطأ إداري، بل جرح إنساني، يحمل في طياته رسالة صامتة بأن جهوده لا تُرى، وأن مكانته لا تُحترم، وأن وجوده يمكن تجاوزه دون اعتبار.
ومهما حسنت النوايا، فإن النتيجة مؤلمة، وقد تخلق حالة من النفور والارتباك، وتفتح بابًا للظنون، وتطفئ الروح التي كانت تعمل بشغفٍ وإخلاص.
المؤسسات التي تنجح ليست تلك التي تُدار بعقلٍ واحد، ولا تلك التي تُبنى على أوامر فرد، بل التي تُقيم جسور الثقة بين القادة، وتمنح كل مسؤول مساحته وصلاحيته، وتُحاسبه على ما قدّم لا على ما سُلب منه ، فالمسؤول الذي يُلغى دوره يتحوّل إلى "ظلّ"؛ موجود في الشكل، غائب في الفعل، مقيّد في الحركة، مشدودٌ بين واجب الموقع وغياب الصلاحية وأنا لا أرضى أن أُعامل كظلّ، بينما كُلّفت بمهمة ينبغي أن أُؤديها كاملة
وما أثقل على النفس أن يُجَرَّد الإنسان من دوره أمام فريقه، أو أن يرى مهامه تُسحب منه واحدة تلو الأخرى، دون تفسير، ودون سبب، ودون حتى كلمة توضيح تحفظ ماء وجهه.
إن المركزية حين تتجاوز حدودها تتحول من أداة ضبط إلى أداة إلغاء ، ومن واجب كل بيئة عمل تحترم نفسها أن تصون قيمة المسؤول، وأن تُعطي لكل ذي دورٍ حقه، وألا تسمح لمنطق الإقصاء أن يتسلل إلى منظومتها.
ولأنني تربيتُ في الكشافة، ونهلت من مبادئها، فقد تعودتُ – ولن أتخلى عن ذلك – أن أوكل الأمور لأهلها، وأن أثق بمن كُلِّف، وأن أُحاور، وأتشاور، وأساند، وأوجه، دون أن ألغيه أو أتجاوزه أو أحجب دوره. فهكذا تُبنى الفرق، وهكذا تُصان الكرامة، وهكذا ينهض العمل المؤسسي.
ولعلّ أعظم ما في القيادة أن تعرف متى تمسك، ومتى تُفوّض، ومتى تفسح الطريق لغيرك ليظهر، ويعمل، ويبدع… فهذا هو جوهر القيادة التي تعلّمناها، وهو ما نؤمن أنه الطريق الأمثل لبناء الإنسان قبل بناء المؤسسة ، هذا علمي وسلامتكم





