في القرى الهادئة لا تُقاس العظمة بصخب الإنجاز، بل بعمق الأثر، وهكذا تتجلى سيرة الداية زينب البخيت؛ امرأة جعلت من البساطة منهجا، ومن الإخلاص علما، ومن خدمة الناس فلسفة حياة ممتدة عبر عقود، لم تنتظر يوما شهادات عريضة تُعلق على الجدران، ولا احتفت بضجيج التكريم، لكنها صنعـت ما هو أبقى أثرا، حينما يتردد في ذاكرة آلاف الأطفال الذين حملتهم إلى الوجود، وفي صدور أمهات وجدْن في صوتها ملاذا من قلق المخاض ووحشة الألم.
لقد أفنت حياتها في خدمة مدينة القرشي وجوارها، محافظةً على سجلٍّ نادر يكاد لا يُصدَّق: لم تُسجَّل بحقها حالة خطأ طبي واحدة، ليس لأنها كانت تعمل في ظروف مثالية، بل لأنها أتقنت فنّ الإصغاء للجسد، وكشفت لغة الألم، وامتلكت حسًّا داخليًا لا يكتسبه الأطباء بسهولة.
بالرغم من بدائية الأدوات في تلك الحقبة بمدينة القرشي، حيث لا أجهزة ولا مختبرات ولا تجهيزات متقدمة، فإن الداية زينب البخيت كانت نموذجا نادرا للدقة واليقظة، فقد كانت تمتلك قدرة عجيبة على ترجمة العلامات الخفية في جسد الأم، وتعرف الموضع واللحظة والقرار، لقد صنعت سجلا مهنيا يستحيل على كثير من الأطباء في المؤسسات الحديثة بلوغه، لأن يدها كانت تُدار ببصيرة وضمير، لا بأجهزة وحدها، لهذا كانت ممارستها للمهنة أشبه بـالفنان العبقري، تنصت فيه للإنسان قبل أن تنصت للجسد.
لم تُسجَّل عليها حالة خطأ طبي واحدة، لا لأن الظروف كانت سهلة، بل لأنّها كانت تمارس مهنتها بضمير حيّ يشبه حدس الحكماء، كانت تعرف أن كل ولادة تجريها هي امتحان بين الحياة والموت، فكانت تعتمد على خبرتها المتراكمة، وعلى تلك البصيرة الداخلية التي لا تُدرَّس في جامعات الطب، ولعل هذا ما جعلها محل دهشة الأطباء الذين سمعوا عنها؛ كيف لقابلةٍ ريفية، تعتمد على أدوات بسيطة تكاد تنتمي إلى زمن آخر، أن تحقق سجلا مهنيا لا يحققه كثير من الأطباء في أرقى المستشفيات.
كان حضورها يتجاوز حدود المهنة إلى مقام الحكمة؛ حضور يشبه ما سماه الطبيب الفرنسي الشهير فرناند لاماز: الولادة ليست حدثا طبيا فحسب، بل حدث إنساني يحتاج يدا خبيرة وقلبا مطمئنا؛ وزينب حملت كلاهما؛ يدا تحفظ الحياة وقلبا يصنع الطمأنينة.
عندما نقارن سيرتها بسير كبار أطباء النساء والتوليد في العالم، ندرك أنّ التفوق لا يُقاس بالمختبرات المتقدمة، ولا بشهرة المستشفيات العالمية، بل بقدرة الشخص على تحويل المعرفة إلى فعل يحمل معنى، فكم من طبيب امتلك المعرفة لكنه افتقد اللمسة الإنسانية، وكم من جرّاح ذاع صيته بينما لم يلامس قلوب الناس كما لامستها الداية زينب البخيت، إنها تنتمي إلى المدرسة التي ترى أن الطبيب الحقيقي هو من يمارس علمه بروح الإنسانية، لا بروح المهنة وحدها.
ذهب عالم النفس الوجودي إريك فروم إلى القول أنّ أعظم العطاء هو أن تمنح جزءا من حياتك لمن يحتاجه دون أن تشعر أنك منحت شيئًا؛ ولعل هذا القول ينطبق عليها تماما؛ فقد منحت منطقة القرشي والقرى التي حولها جزءا من حياتها؛ بل حياتها كلها، دون أن تلوّح بفضل أو تشعر أحدا بثقل العطاء.
ورحيلها عن القرشي إلى مسقط رأسها في الجزيرة لم يكن مجرد انتقال جغرافي، بل كان يوما يتيما في ذاكرة المدينة؛ فقد بكى الناس لأنها لم تكن قابلة وحسب، بل كانت الأم الكبرى التي رافقت أجيالا إلى الحياة، فهي تمثل الأم التي كوّنها العطاء لا البيولوجيا، والتي رسّخت في وجدان الجميع أن الإنسان العظيم قد يعيش بيننا بهدوء، يمرّ دون ضجيج، لكنه يغادر تاركا أثرا لا يستطيع الزمن محوه.
في عالم يتسابق نحو التقنية ويقيس النجاح بالأرقام، تذكّرنا زينب البخيت أنّ أعمق صور التقدم هي تلك التي لا تظهر في التقارير السنوية، بل في قلب امرأة قالت لها: "الحمد لله أنك كنت هنا"، وفي طفل كُتب له أن يولد بين يديها، وفي مدينة تشعر أن جزءا من روحها قد غادر معها.
ومن هنا، يصبح الحديث عن تكريمها ضرورة أخلاقية؛ إن ترشيحها للتكريم في مدينة القرشي وعلى مستوى منظمة الصحة العالمية ليس مجاملة، بل اعتراف بأن العظمة قد تولد في أزقة صغيرة، وأن الإنسانية قد ترتدي ثوبا بسيطا لا يعترف به البروتوكول.
ولو كنتُ وزيرا للصحة، لما ترددت لحظة في أن أقف أمام الناس لأكرّم زينب البخيت نيابةً عن جيل كامل؛ لا تكريما بروتوكوليا يمرّ كخبر عابر، بل تكريما يُعيد الاعتبار لأولئك الذين رفعوا الحياة فوق أكتافهم بصمت، لأن بعض العطاء لا يُكافأ بالمال ولا يُقاس بعدد سنوات الخدمة، بل يُقاس بما يشبه حقا أخلاقيا علينا جميعا. وزينب البخيت تستحق أن يُقال لها باسم جيل كامل شكرا لأنّك كنتِ هنا… ولأنكِ جعلتِ العالم أكثر إنسانية.
شاهد الآن - بقلم : أ.د.عبدالحليم موسى

زينب البخيت… أمُّ الجيل التي صنعت ما تعجز عنه المؤسسات
وصلة دائمة لهذا المحتوى : https://shahdnow.sa/articles/327636/




