أهلاً بكم في عبق الخزائن ..
عزيزي القارئ: المحتوى الذي سأقدمه إليك هنا ذو أصالة متجذرة في أعماق التاريخ..
ما ستجده هنا يختلف تماماً عن المحتويات التاريخية الأخرى لما له من قيمة اسمية ومكانية وعلمية..
نعم إنها مكتبة الحرم المكي الشريف..
تمتاز مكتبة الحرم المكي الشريف بارتباط اسمها ومكانها بأطهر بقاع الأرض وتتمتع بإرث تاريخي عريق وبكنوز علمية ومعرفية وثقافية متعددة تشمل مختلف العناوين والموضوعات والتي استفاد منها الكثير من ضيوف الرحمن والعمّار والزوّار والمهتمين بالعلم والمعرفة، ويعتقد البعض بأن هذه المكتبة لا تحظى بالتنوع والشمولية بين أرففها وأروقتها، وسنتعرف من خلال هذا المقال الذي ركز في مضمونه على عدد من الجوانب مراعياً فيه عدداً من المراحل مسرَداً سرداً تاريخياً ثم تطوراً وتنظيماً، وذلك لتصل الصورة الكاملة عن أقدم مكتبات العالم الإسلامي ليستشعر فيه مدى اهتمام وحرص الأمة الإسلامية والعربية بالعلم والمعرفة والحضارة لا سيما العهد السعودي الحافل بالمنجزات في شتى المجالات.
في البداية سنعرج بشكل سريع حول ارتباط مكتبة الحرم المكي الشريف إدارياً فهي تتبع للرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي تحت الهيكل التنظيم لوكالة الرئاسة العامة للمكتبات والشؤون الثقافية ويعمل بها كادراً من الشباب السعودي المختص في المكتبات ونظم المعلومات وبها اليوم العديد من الإدارات الخدمية والفنية والإدارية والتي ساهمت بدورها في تنظيم آلية عمل المكتبة لتحقيق أعلى معايير الجودة والاتقان في الخدمات وتوفير المعلومات ونشرها بمختلف أشكالها لأفراد المجتمع, وسنتناولها لاحقاً مع شيئاً من التفصيل.
أما الجانب التاريخي للمكتبة فهو ذو جذور عريقة ومتأصلة فقد انطلقت نواتها من قلب الحرم المكي الشريف قبل ثلاثة عشرة قرناً وتحديداً من صحن المطاف ومن جوار الكعبة المشرفة حيث أمر الخليفة العباسي محمد المهدي في عام ١٦١ للهجرة ببناء قبتين في صحن المطاف، الأولى لحفظ السقاية والرفادة والأخرى لحفظ المصاحف والمخطوطات وجاء هذا الأمر بعد أن أصبح الحرم المكي في تلك الفترة جامعة للعلم ومقصداً يقصده العلماء لنقل علمهم وتدريسه وزاداً يتفقه منه طلبة العلم، فانتشرت بين أروقته المباركة حلقات العلم ومجالس الدروس مما أدى إلى الازدهار في شتى المجالات العلمية والمعرفية وتحديداً علم الشريعة وفقه الدين والذي نتج عنه التدوين والكتابة التي أدت بعد ذلك إلى ظهور العديد من المؤلفات مما استدعى إلى أنه لا بد أن تجمع وتحفظ في مكان واحد للرجوع إليها في أي وقت والاستفادة منها ثم استمرت على حالها مع تطور بسيط في تنوع محتوياتها التي شملت بعد ذلك الأدب والتاريخ وفنون اللغة العربية، ووصولاً إلى العهد السعودي الزاهر الذي يعد النقلة النوعية للمكتبة ففي عام ١٣٥٧ للهجرة أمر المؤسس الملك عبدالعزيز - رحمه الله - بتسمية المكتبة باسمها الحالي مكتبة الحرم المكي الشريف ودعمها بمجموعة من المقتنيات والكتب لتكون بعد ذلك دائرة حكومية رسمية أسس لها مجلساً لإدارة شؤونها يشرف عليها وينظمها ويطور من أعمالها برئاسة مدير المعارف آنذاك ثم سار من بعده أبناءه الملوك بدعم هذا الصرح التاريخي والمعرفي العريق ليتكون منها بعد ذلك مكتبة حقيقية متكاملة الأركان وجب أن يخصص لها مقراً جديداً مع التوسعات السعودية العملاقة للمسجد الحرام فانتقلت إلى جهة باب الدريبية ومن ثم إلى عمارة الأشراف بأجياد وبعد ذلك انتقلت إلى عمارة مشروع الحرم أمام الصفا وخلال وجود المكتبة في هذا الموقع انتقلت تبعيتها من إدارة المكتبات بوزارة الحج والأوقاف إلى الرئاسة العامة للإشراف الديني بالمسجد الحرام (الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي حالياً) ثم انتقلت إلى حي التيسير ثم إلى مبناً خاصاً شيد لها مقابل باب الملك عبدالعزيز إلا أن التوسعات السعودية للمسجد الحرام كانت وما زالت ولله الحمد مستمرة مما استدعى بعد فترة من الزمن أن تنتقل من مكانها إلى شارع المنصور ومنه إلى حي العزيزية ثم حطت رحالها الأن في مبنى ضخم بحي بطحاء قريش يتكون من ثلاثة عشرة طابقاً يضم عدداً من قاعات الاطلاع والمكاتب الإدارية والخدمية.
حينما كانت المكتبة داخل المسجد الحرام متمثلة في قبة المخطوطات حدث في بعض محتوياتها شيئاً من التلفيات الكاملة أو الجزئية وذلك لعدد من الأسباب كالسيول التي داهمت الحرم المكي الشريف في تلك السنوات مما استدعى ضرورة المحافظة على ما تبقى منها وعندما انتقلت تبعية المكتبة إلى الرئاسة العامة للإشراف الديني بالمسجد الحرام بدأت عهداً جديداً حيث أنشيء فيها قسماً خاصاً للنساء وقسماً خاصاً بتجليد الكتب وخصصت لها ميزانية لدعمها بالكتب والمخطوطات والمصادر المعلوماتية والمرجعية المختلفة والمتنوعة وطورت فيها أساليب الخدمات المكتبية لتكون مكتبة عامة مفتوحة للجميع بحكم أنها المكتبة العامة الوحيدة في مكة المكرمة وتم أيضاً تفعيل عملية التبادل مع المكتبات الأخرى مما أثرى مقتنيات المكتبة.
وتوالت الاهتمامات وسبل الدعم للمكتبة العريقة في مختلف المجالات بدءاً من الموظفين العاملين بالمكتبة حيث أقيمت لهم الدورات التدريبية المتخصصة في مجال المكتبات وتنمية مهاراتهم العملية وكذلك إيفاد المختصين منهم وانتدابهم إلى معارض الكتاب داخل المملكة وخارجها لاقتناء الكتب وتزويد المكتبة منها بكل ما هو جديد وثري كما تم دعمها بمجموعة من أجهزة تعقيم المخطوطات والكتب النادرة وكذلك توفير بوابة إلكترونية عند مداخل المكتبة وأيضاً أجهزة للتصوير الفوري والطباعة وكذلك معملاً متكاملاً بأجهزة الميكروفيلمية ثم توفير أجهزة الحاسب الآلي، لتقدم خدماتها بالمجان خدمة للعلم وأهله ورواد هذا الصرح التاريخي.
وساهم هذا التطور المتواصل في نقل المكتبة نقلة نوعية نتج عنها تدريجياً عدداً من الإدارات تحت سقف المكتبة مما استدعى إلى أن يكون هنالك تغير جذري في الهيكل الإداري يتماشى مع واقع وطبيعة المكتبة الحالي، لذا أصدر معالي الرئيس العام لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي الأستاذ الدكتور عبدالرحمن بن عبدالعزيز السديس قراراً يقضي بأن تكون للمكتبة إدارة عامة يندرج تحتها مجموعة من الإدارات، وحرص على ضخها بأعداد من الكوادر البشرية المتخصصة لتعمل بين أرففها وفي قلب إداراتها من الحاصلين على درجة الدكتوراه والماجستير والبكالوريوس في نظم المعلومات وعالم المكتبات والإدارة والعلاقات العامة والإعلام والبيانات وغيرها من التخصصات مما ساهم بشكل سريع في تطورها ومواكبتها لأحدث الأساليب لضمان الجودة والاستمرارية والتطور والنمو ليس فقط في توفير المعلومات بل حتى في نشرها وتغذية المجتمع وأفراده بها من مصادرها الصحيحة والموثوقة والتي من خلالها تبنى وتعزز العقول وتنهض الأجيال وتزدهر المجتمعات بشكل صحي وسليم آمناً معلوماتياً.
من هنا عزيزي القارئ نصل إلى نهاية هذا الجزء لنكمل في الجزء القادم مرحلة جديدة في سيرة مكتبة الحرم المكي الشريف والتي سنتناولها بشكل مختلف أكثر تفصيلاً في جوانبها الإدارية وما تضمه من إدارات وكذلك ما تحويه من مصادر ومراجع وخدمات مقدمة لنتعرف سوية على مدى الاهتمام الذي حظيت به هذه المكتبة في العهد السعودي الميمون والعناية بها و بكل ما يعني الجوانب العلمية والمعرفية والثقافية وما هذه المكتبة إلا خير مثال لنا في ذلك، فانتظرونا.