لا تلوموني في عشق مدينة عشت ونشأت في ضواحيها ، حملت ذكرى آبائي وأجدادي ، أصبحت لي ديرة وملاذ ومتنفس لا أجد ذاتي إلا في ربوعها .
تفردت بكل شيء جميل ؛
رمالها وسمائها ، أشجارها وأوديتها ، كلها اتخذت من الجمال قالبًا لها .
إذا أغاثها الرحمن تجد الرمال تكرم المطر بفرحة تنبعث منها ،
تجد عبقًا يفوح شذاه لا تجده في أي مكان آخر ، تشعرك بحرارة الشوق وحلاوة اللقاء بين الأرض والمطر .
دائمًا يقولون : المطر في بيشة غير ، وأنا سأجيبك لماذا غير ؟!
لأن الأرض من شدة شوقها للغيث تحتضن حبات المطر ؛ فتزهر الأرض وتكتسي بالعشب منادية عشاق البر وأصحاب الماشية والإبل من كل مكان ،
وتمتلئ الأودية وتجري السيول وكأنها لوحة فنان أبدع في تلوين لوحته !
إذا لم تتبع مخيل المطر منذ قدومه فأنت لم تشعر بفرحة المطر !
ليس زهوًا ولاتعجرفًا فنحن في مدينة نشعر بقدوم المطر قبل هطوله ؛ فالمطر عندنا بشرى نتباشر به وكأنه يوم عيد ، والصغير قبل الكبير يردد : " المطره هنيئة والرحمة هنيئة" ، "تهناكم الرحمة" .
و نحن أبناؤهم في المدن الأخرى نهنئهم بالمطر لأننا نعلم فرحتهم ونهنئ أنفسنا بفرحتهم التي نشعر بها من أصواتهم .
ونحن أهالي بيشة نبحث عن السعادة ونصنعها بأنفسنا ، نتأمل كل شيء جميل ، ونترجمه ، وسوف أسترسل بالحديث عن ذلك .
اشتهرت بيشة وناسها
بالفلكلور الشعبي ويتمثل في :
الرايح والعرضة عند الرجال ،
و السيال عند النساء ؛
فأهالي بيشة يحبون الطرب والأنس ، باختصار الحياة الشلية تجدها عند أهالي بيشة ،
وكل تلك الرقصات يستمتعون بها وهم يترنمون بألحان صمموها ونظموها بأنفسهم وتسمى الطاروق ؛ وهي متنفس لهم يبثون فيها همومهم وأحلامهم ، ويجرون الصوت فيها بصوت عالٍ يشكل لهم أفضل علاج روحي ونفسي يفرغون فيه كل ما يعانونه طوال اليوم من تعب وهم .
واشتهروا أيضًا بسعة الخاطر وجود اليد وسخاء النفس ؛ فالضيف عندهم هو المتكرم عليهم بقبول دعوتهم وهذا من طيب أرواحهم وشهامة طبعهم واحتفائهم وفرحتهم بالضيف .
أبوابهم دائمًا مشرعة للقريب والبعيد ؛ مما يجعل الضيف يشعر أنه هو صاحب البيت .
وتذهلك فصاحة الأطفال ؛ فالطفل الصغير عندما تصادفه أمام منزله يلح عليك أن تقلط وتقبل عزيمته بفصاحة لسان وبلاغة أسلوب .
وسأذكر قصة طريفة حصلت مع والدي في طفولته وهو في عمر العاشرة من عمره ، يقول : أتى زوج عمتي لزيارتهم ولكن لم يكن يوجد في المنزل سوى والدي ، فأراد الرجل أن يختبر فطنة وذكاء والدي ؛ فقال له : ماذا ستقدم لي من طعام ؟ فكان أبي يعشق الحبحب فذهب وأتى بحبحبة كبيرة وقال : سوف أقدم لك الحبحب فهو لذيذ ويناسب هذا الجو الحار ، فضحك الرجل وقال : حيّ الله من يذبح لنسيبه حبحبة !
ففطن أبي لكلامه ؛ لشدة نباهته وفطنته ، وأدرك أن هذا الكلام استهزاء وسخرية ؛ فاغتاظ وأخذ سكينًا واتجه للحضيرة ، وأخذ عجلًا وحاول أن يذبحه ؛ ليقدمه للضيف ، ولكنه لم يستطع لصغر سنه ، فعاد للمنزل وقال للرجل : قم اذبح ضيفتك بنفسك ، فلقد قطعت أطراف العجل ؛ فأكمل ما بدأت فيه .
فذهل الرجل من شجاعته وفطنته !
وهذه الحادثة غيض من فيض ؛ فالأطفال هناك هم من يسكبون القهوة ، ويباشرون الضيوف ، ولا يغادون المجلس ؛ بل ينصتون لأحاديث الكبار ويتعلمون منهم ،
ولهم لهجة بيضاء ميزتهم ، تشعرك بجمال العبارة ، ويطربك صوت الحرف فيها .
فالغالب في جميع القبائل هناك قلب الكاف سين ؛ أو (تس) عند مخاطبة الأنثى .
سأذكر على سبيل المثال بعضًا منها : مثلاً كيف حالك ؟ عند السلام على المرأة نقول : كيف حالس ؟ أو كيف حالتس ؟
مأجورة والسلامة ، ( وش لونس ) تقال للسؤال عن الحال والدعاء بالأجر .
( وش وقعك ) وتقال للسؤال عن الحال ولكن بصيغة أخرى ؛ أي ما حالك هذا اليوم وماذا صرتِ عليه ؟
( وش قومك ) هذه تقال للتعجب .
وبيشة مضرب للأمثال ومقصد للشعراء منذ القدم ، وهناك عبارة قديمة شائعة نسمعها دائمًا من كبار السن وما زالت تردد حتى الآن والغالب يجهل معناها ! قولهم : " ما وراء بيشة عيشة " القارئ عندما يقرأ تلك العبارة يتبادر لذهنه أنه لا يوجد في بيشة عيشة ، أو يظن بأنه لا يوجد بعد بيشة عيشة ، أو أن الرزق والخير موجود في بيشة وما سواها لا .
ولكن المقصود من هذا المثل : لقد كانت بيشة مركزًا تجاريًّا للحجاج والمسافرين القادمين من اليمن والدول المجاورة ، وكانوا يتزودون ويأخذون احتياجاتهم من بيشة ؛ لأنها كانت وما زالت تشتهر بالتمور والخضرة لكثرة الأودية والسيول .
و ما وراءها صحراء وطريق منقطعة لا يوجد فيها شيء ؛
فلذلك كانوا يقولون : "خذ مونتك من بيشة ترى ما ورا بيشة عيشة" .
وسأختم حديثي عن مدينتي الصغيرة ، أقول لها : مهما باعدت بينا المسافات والظروف لن يوازي حبك في قلبي أي مدينة أخرى .
بقلم / هياء هديب الشهراني
“سلامي على بيشة”
وصلة دائمة لهذا المحتوى : https://shahdnow.sa/articles/226422/