ما أزال أتذكَّر جيدًا أحد زملائي النَّابهين في مرحلة الدراسات العليا تأخَّر كثيرًا في تسجيل موضوع رسالته في الدكتوراه، مع أنَّه يُبهرني بما لديه من أفكار، وهو في الوقت ذاته باحث مميَّز، لكن بعد وقت أدركت حقيقة ما جعله يتأخَّر ويتردَّد.. وكما قيل: التردُّد مَقبرة الفُرص!.. كان صاحبي –وفقه الله- يجعل من كُلِّ أساتذته، وزملائه مستشارًا! فكلمَّا توصَّل إلى فكرة سارع باستشارتهم جميعًا، وبطبيعة الحال يتأثَّر بما يأتيه من آراء، فيظلُّ يتردد ويغيِّر، ويرى الموضوع بأكثر من طريق، وبزوايا متعددة فيقرر تغيير الفكرة برمَّتها ويعود من جديد!
صحيح أن النَّفس جُبِلت على الحديث للأحبَّة و(الفضفَضة) للأصدقاء الخاصِّين، وهذا مُشاهد واقعي في مجالات كثيرة من مجالات الحياة، لكن عندما تزداد خطورة القرارات فإن الأحاديث يجب أن تكون أقلَّ انتشارًا، وحينها إن أردت استشارة أحد في قرارك فيجب أن تأخذ وقتًا كافيًا لمعرفة مدى ملاءمة مَن تستشير، وهنا أذكر بعض النقاط المهمة في فقه اختيار المستشار في الخلافات الزوجية:
1) ليست كل الخلافات تستدعي البحث عن مستشار! فهناك خلافات تحتاج إلى مصارحة الطرف الآخر، والتنازُل عن حظّ النَّفس، وكسر حدَّة الأنا، وهذا يكون في الخلافات التي لا تتسبب في إعاقة التعامل بين الزوجين، فهي خلافات سطحيَّة، لا تتعلق بأركان الحياة ومبادئها، إنما هي وجهات نظر، ومشاكل كانت في أصلها يسيرة لكن مع الغضب وشُحّ النفس تحولت إلى مشكلة كبيرة، ولعلي أهمس هنا للزوجين لأقول: بعد هذه السنوات التي قضيتموها معًا وتشاركتما في حلوها ومرِّها، مَن ترون أحق بالتَّنازل والإيثار؟ هل صديقتك المقرَّبة التي سامحتيها، وصاحبك الذي عفوت عنه أحقّ من شريك حياتك؟ متى ستدركون أنَّكما أولى بمساحات أوسع للمسامحة والعفو والتَّجاوز؟! وللعلم فإنَّ أحدَكما لو صاحب أحدًا ولازمه كما الحال بينكما لربما لم يتحمل طبعه وخُلُقه شهرًا واحدًا، وهذه طبيعة الحياة، ولذا قالوا: زُرْ غِبًا تزدَد حُبًا، أرادوا بذلك بيان أن كثرة الزيارة والخُلطَة تُقلِّل الاحترام، وتجلب الملل؛ لذا فإنكما –أيُّها الزوجان- بهذه العشرة الطويلة بينكما يحصل الخلاف مهما بلغتما من كريم الطبع والخُلُق، وبعض الأزواج لا يدرك ذلك إلا بعد الطلاق، أو بعد أن يتزوج أخرى!
2) كثيرًا ما تكون أنتَ أيها الزوج، أو أنتِ أيتها الزَّوجة خير مَن يقدِّم الاستشارة والحلّ! لكن يصعب على النَّفس الاعتراف، والصَّراحة تحمل المرارة، ولو تأمَّلت حقيقة ما يقوله لك المستشار المخلص لرأيته –غالبًا- لا يخرج عن توقعاتك! لأنك تمتلك المعطيات التي بنى عليها استشارته، وأنت أعلم بردود أفعال الطرف الآخر في حياتك، وتعلم على وجه اليقين ما يُفرحه وما يُحزنه، وبمقدار تحكيمك العقل والأسس الشرعيَّة والمنطقيَّة تستطيع –بتوفيق الله- التوصُّل لحلول نافعة، وكم رأيت ذلك في حياة عقلاء النَّاس، وكلما كانت الحلول صادرة عن الزوجين أو أحدهما كانت أنفع وأصلح، وبالطبع فإني لا أعني هنا الخلافات المعقَّدة، أو المشكلات التي تهدد أُسُس العلاقة الزوجيَّة.
3) من المهم عدم التَّسرُّع في إفشاء الخلافات وإيصالها لأطراف لها قرابة بأحد الزوجين؛ لأن النَّفس تميل للبحث عن أعذار للطرف القريب لها، وكثيرٌ من النَّاس لا يُحسن التجرُّد للحق، وتقمّص مكان الطرف المتضرّر، ومن هنا فإن نقل الخلافات خارج الزوجين ينفخ في المشكلة ويجعلها أكبر مما هي عليه، وحينها تظهر روايات أخرى لقصَّة الخلاف، والنَّاس بطبعهم يتلذَّذون بنقل القصص فيما بينهم، وقليل مَن يستقبل الشكوى ليبحث عن التهدئة والعلاج؛ لذا أقول للزوجين: قبل أن تنقل شكوى عن شريكك اسأل نفسك: ماذا أنتظر من هذا الشخص الذي أنقل له الشكوى؟
4) إذا كان لديك مَن تثق بدينه ورأيه، وقد جربته في مشكلات عدَّة فلمست منه الحكمة، والنظر للعواقب، وحفظ السِّر؛ فإنك بذلك قد قطعت شوطًا مهمًا في اختيار المستشار، لكن عليك أيضًا ألا تتعجَّل! فإنَّ طبيعة الخلافات الزوجيَّة تختلف اختلافًا جذريًا عن المشكلات الأخرى، فلابد من توفُّر الخبرة العمليَّة في موضوع الإصلاح وحلّ المشكلات بين الأزواج، هذا إن أردت استشارة للعمل بها، وهي تختلف عن النصيحة العامة التي يمكن أن يقدِّمها مَن يحبُّك.
5) إذا أخذت استشارة تعتقد صحتها، وبدأت بتطبيقها فإياك والتَّعجُّل بالنتيجة، وكذلك لا تكن ممن يؤمن ببعضٍ ويكفر ببعض! فإذا قدَّم لك استشارة لصالحك عملت بها، فإن كانت للطرف الآخر لم تعمل بها، فبعض النَّاس يثق برأي مستشار خبير، فإذا قدَّم له استشارة بعد تفحُّص وتدقيق وكانت على غير هواه تركها!
إنَّه بمقدار ارتباط الاستشارة بالأصول الشرعيَّة التي تُقدِّم الفَضل والعفو، وتدعو للاجتماع والقرب؛ تكون تلك الاستشارة جديرة بالأخذ بها، وإذا كان بالإمكان وضع خطوةٍ للصُّلح قبل الفِراق، وخوض تجربة للحلّ والحفاظ على المكتسبات حتى لا يحدث النَّدم بعد سنوات الفراق والطلاق! وصدق الفرزدق في زفراته حين طلَّق زوجته فقال:
نَدِمْــتُ نَــدَامَـــةَ الكُسَــعِيّ لَمّـا ... غَـدَتْ مِنّي مُطَلَّقَـةً نَـوَارُ
وَكَانَتْ جَنّتي، فَخَرَجْتُ منها ... كَـــــآدَمَ حِينَ لَجّ بِهِ الضِّــــرَارُ
وَكُنْتُ كَفاقىءٍ عَيْنَيْهِ عَمْــــــدًا ... فَأصْبَحَ مَا يُضِيءُ لَهُ النّهَارُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*مؤلِّف، وباحث لغوي واجتماعي
@masayed31