قبل سبع سنوات وقبل وفاة والدي بعام -رحمة الله عليه- كنا في طريقنا أنا وهو لسوق الخضار المركزي في المنصورة ، وكان يفصلنا يومان فقط عن بداية شهر رمضان ، شاهدنا تجمعًا كبيرًا لأطفال صغار يحيطون بطفل ، وكان واضحًا أنهم يطوفون به في حواري المنصورة ، الطفل يبكي بشدة وهم يحاولون مساعدته ، اتضح أن الطفل تائه أضاع منزله وببراءتهم وحسن نيتهم ومن دون قصد يبدو أنهم أبعدوه بعيدا عن حارته
تدخل الشباب وكبار السن وحتى النساء المارات في الشارع ، الكل يحاول مساعدة الطفل و (الطبطبة) عليه وتهدئته الكل يسألونه عن اسمه عن اسم والده ،جميعهم مهتمون قلقون يريدون مساعدته.
لوحة انسانية جميلة الكل شارك في رسمها أطفال وشباب وكبار سن رجال ونساء .
اللوحة الإنسانية أعادت لي شريط ذكريات في طفولتي في مدينتي المنصورة، قلت لوالدي -رحمة الله عليه - بابتسامة : تذكر كلمتك لي وأنا طفل ثم لأخواني من بعدي ( لو ضعت يابني روح المسجد).
وكنت تقصد أن أدخل أقرب مسجد لو ضعت ، وأنت ستلاقيني فيه.
سبحان الله يا أبي مرت السنوات أنا الأن عندي أولاد ومدرس في الجامعة ومسؤول قي الدولة.
ابتسم والدي وقال: ولا أزال أقولها لك بالذات الأن وانت مسؤول عن بيتك أو في الدولة وأنت بهذا السن ، لو (تهت) يا عصام روح المسجد .
كان للكلام هذه المرة أثر ووقع قوي جدا ، أن يقولها لي والدي وأنا بهذا السن ولكني عرفت مقصده العظيم -رحمة الله عليه-
أخوانا المصريون حين تحيطهم الهموم أو تكثر مشكلاتهم أوترهقهم الأيام وتصعب عليهم الحياة يرددون عبارة( ياعدوي) مناداة للشيخ محمد العدوي الذي كان يسكن في (بولاق) في زمن محمد علي باشا ، اذ كان الشيخ محمد العدوي يعقد حلقات ذكر ودروس في مسجد بولاق ومعروف عنه حبه تدريس الأطفال في المسجد وملاعبتهم ببعض الحيل والخدع والألعاب ولهذا كانت الأمهات تأتيه من كل مكان لتدريس أطفالهن في المسجد وقد عرف عنه عادة أنه اذا ضاع طفل في الحارة يخرج هو شخصيًا للبحث عنه في الحواري وينادي باسم الطفل ولا يعود الا والطفل معه ، ولذلك سمي ب(شيخ المنادين )
توفي الشيح العدوي وبكته كل بولاق .
كبر أطفال بولاق تلامذة الشيخ وسخروا أنفسهم للمهمة ذاتها البحث عن الأطفال التائهين، وسموا أنفسهم بالمنادين ، بعضهم كان كفيفا يحمل العصا بيده واليد الثانية ممسكا بوالد الطفل التائه ويصرخ باحثا في الحواري (نظرة ياعدوي)
لذلك لايزال بعض الناس إلى الآن في مصر اذا تاهوا وضاعوا في مشكلاتهم وسرقتهم همومهم ينادون ياعدوي استنجادا بالشيخ محمد العدوي - رحمة الله عليه- هناك عادة اتبعها من كم سنة في يوم الخميس ، أذهب الى بيت والدي في المنصورة وقبل اذان المغرب بنصف ساعة أحب أن أذهب لمسجد عمر بن الخطاب في ساحة الشهداء في المنصورة أقعد وقتا هناك .
في آخر خميس وأنا في طريقي للمسجد شاهدت أستاذي الرائع القدير لقد أهلكه المرض يسير ببطء شديد لقد تعب كثيرا جدا أوقفت سيارتي نزلت سلمت عليه أهلا أستاذ : انا ابن زميلك الأستاذ محمد انا ابنه عصام احتضنته أركبته سيارتي قال : خذني في طريقك إلى مسجد عمر حيث أشعر بالسكينة بالراحة بالاطمئنان بالأمان لقد ارهقتنا الأيام وقست علينا الأحوال لقد كثرت ديوننا ازدادت مشاكلنا وأرهقنا الغلاء كثيرا وازدادت أمراضنا وهمومنا يا ولدي عصام.
لقد ضعنا و تهنا يا ولدي
لهذا أجد سكينتي وراحتي في المسجد
أدمعتني كلماته.
حينها تذكرت عبارة والدي -رحمة الله عليه - لو تهت يابني روح المسجد
لقد مات أبي رحمة الله عليه وبقيت كلماته
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*فائدة : (لوستالجيا) معناها الحنين للماضي