رمضان هذا العام كان مختلفًا بالنسبة لي، إذ عشت نصفه الأول في أقدس بقاع الأرض، مكة المكرمة، حيث تتجلى الروحانية في أسمى صورها، وأستعد الآن (من اليوم فصاعدا) لقضاء نصفه الآخر في شيكاغو -إنشاء الله - ، وهي مدينة غربية تعجّ بصخب الحياة ومغرياتها التي تتناقض تمامًا مع أجواء الصيام في الحرم المكي. هذه التجربة تعد بمثابة رحلة وجدانية، بين سكينة العبادة وخشوعها في مكة، وبين اختبار الإرادة والثبات في شيكاغو.
في مكة المكرمة ، حيث الرحاب الطاهرة والسكينة، يبدأ يوم الصيام بنداء الفجر الذي يصدح من الحرم المكي، فتشعر أن الأرض كلها تصحو على صوت الأذان، وكأنها دعوة جماعية للعبادة والخشوع. المشي إلى المسجد الحرام لأداء الصلوات يمنحك طاقة روحانية لا توصف، والإفطار هناك وسط آلاف الصائمين يغمرك بشعور من الألفة والمحبة. الجميع يتسابق لتقديم التمر والماء، وكأن كل شخص يسعى ليكون جزءًا من هذا الخير العظيم.
الأجواء في مكة المكرمة خلال رمضان لا تشبه أي مكان آخر، فالشوارع تعجّ بالمصلين، والمساجد ممتلئة، والناس يعيشون تفاصيل الشهر الفضيل بكل جوارحهم. كل لحظة هناك تذكرك بأنك في ضيافة الرحمن، مما يجعل الصيام سهلاً مهما اشتد الحر أو طالت ساعات الصوم.
أما في (شيكاغو) ، حيث الصيام وسط الإغراءات والتحديات، فيأخذ منحى مختلفًا تمامًا. هنا، لا أصوات أذان تُذكّرك بموعد الصلاة، ولا مساجد ممتلئة بالصائمين كما هو الحال في مكة. المدينة تستمر في دورانها المعتاد، حيث الناس من حولك يأكلون ويشربون، والمقاهي والمطاعم تقدم أشهى الأطباق في كل زاوية. كل هذا يجعلك تدرك أن الصيام هنا ليس مجرد امتناع عن الطعام والشراب، بل هو اختبار حقيقي للصبر والعزيمة.
رغم هذا، فإن التحديات في (شيكاغو) تحمل في طياتها دروسًا عظيمة. فهي تعلّمك كيف تصوم بإيمان راسخ وسط مجتمع لا يشاركك هذه العبادة، وكيف تحافظ على طقوسك الرمضانية رغم اختلاف البيئة. ومن أجمل ما يخفف هذا الشعور، هو لقاء الجاليات المسلمة في المساجد والمراكز الإسلامية، حيث يتجمع الصائمون للإفطار معًا، مستشعرين روح الأخوّة رغم بُعدهم عن أوطانهم.
التجربة بين هاتين المدينتين المختلفتين تمامًا جعلتني أرى (شهر رمضان) من زوايا متعددة. ففي مكة المكرمة ، الصيام محاطًا بأجواء روحانية تساعد على التفرغ للعبادة، بينما في شيكاغو، يصبح صيامي رحلة من الصبر والتحدي في بيئة لا تشجع عليه. ومع ذلك، أدرك أن جوهر الصيام يظل ثابتًا، أينما كنت، فهو ليس فقط امتناعًا عن الطعام، بل تهذيبٌ للنفس وتقويةٌ للإرادة.
ما بين قدسية مكة المكرمة وصخب شيكاغو ، تعلمت أن الصيام ليس في المكان، بل في القلب. وإذا كنت قادرًا على استشعار روحانية رمضان في مكة المكرمة ، فمن الأولى أن تحافظ عليها أينما ذهبت، حتى في مدينة لا تعترف بقدسية الشهر ولا بروحانيته. وهذا، في حد ذاته، هو التحدي الحقيقي للصائم.
وبعد رحلة طويلة وشاقة جدًا (جدة – لوس أنجلوس 16 ساعة) ، (لوس أنجلوس – شيكاغو أكثر من 4 ساعات) وبينهما انتظار لأكثر من (9ساعات) في المحطة الأولى ، وقبلهما الحضور المبكر إلى المطار منذ الساعة الخامسة صباحا ، بذلك قد قضينا أكثر من 31ساعه متواصلة من (المنزل –إلى- المنزل ) ، كان من الطبيعي أن يخضع كل شيء للتغيير، بدءًا من الساعة البيولوجية التي تُعد المتحكم الأكبر في التكيف، إلى اختلاف نمط الحياة، وأوقات النوم والاستيقاظ، وتناول الطعام، وروتين الحياة بشكل عام.
كان الله في العون! فقط نحتاج إلى فترة استشفاء لا تقل عن 48 ساعة، حتى يستعيد الجسد توازنه ويتكيف مع الأجواء الجديدة ، لنكمل شهر الله الفضيل في رعاية الله وحده ، هذا علمي وسلامتكم





